العقود التجارية الدولية والمتغيرات (2 من 2)
تحدثنا عن العقود التجارية الدولية وإشكالات المتغيرات السياسية والاقتصادية والقانونية التي تمر بها خاصة مع طول المدة الزمنية لتلك العقود وصعوبة تنفيذها واتساع دائرة آثار تلك العقود.
وعلى ذلك، فإن التغييرات المستمرة التي تحدثها الظروف على تنفيذ العقد والطرق المستخدمة في معالجة مثل هذه التغيرات في الظروف قد أدت إلى إحداث مفاهيم فرضها واقع عقود التجارة الدولية، مما أدى إلى عدم فعالية القواعد والنظم القانونية لدى التشريعات في حل مشاكل تغير الظروف في واقع عقود التجارة الدولية، فنظرية الظروف الطارئة لم تعد أحكامها تساير هذه التغيرات المستمرة في الظروف، وإعطاء القاضي سلطة تعديل العقد في الحدود المنصوص عليها في القانون لا يتماشى مع واقع عقود التجارة الدولية التي تتضمن في أغلبها شروطا باللجوء إلى التحكيم في حالة حدوث تغيرات في الظروف الطارئة، وكذلك الأمر بالنسبة لنظرية القوة القاهرة، فشروطها المعقدة لم تعد تساير الظروف المتغيرة والحديثة، وبالتالي فإن واقع عقود التجارة الدولية خلق حلولا لمواجهة هذه التغيرات في الظروف نذكر منها ما يلي:
ـــ إعطاء حرية أكبر للأطراف في تحديد مفاهيم الظروف المتغيرة وتنظيم شروطها، حيث أصبح للقوة القاهرة مفهوم حديث ومتوسع تمليه إرادة الأطراف، كما أن بإمكان الأطراف صياغة شروط القوة القاهرة بشكل يتلاءم مع طبيعة العقود التجارية الدولية حتى تفي بالغرض من إنشائها.
ـــ ترك الظروف الطارئة للاتفاقات الخاصة حتى تساير متطلبات واقع عقود التجارة الدولية، وبما يسمح بتعديل العقد بشكل يضمن العدالة في تكافؤ الالتزامات، وإعادة التوازن المالي للعقد إلى الحد المعقول بما يتماشى مع الأهداف التي من أجلها تم تأسيس نظرية الظروف الطارئة.
ـــ التزام المدين بإشعار الدائن بوقوع الظرف وآثاره على الالتزام، والتزام الدائن بتقليل الضرر الواقع عليه، وعدم الزيادة في مسؤولية المدين، مع التزام الطرفين بواجب مبدأ الحفاظ على العقد والعمل على إزالة أي عائق أو مانع للتنفيذ.
ـــ إدراج شرط إعادة مراجعة العقد بنص صريح في العقد كوسيلة أو مخرج يمكن الأطراف من تصحيح اختلال التوازن العقدي الذي سببته تغيرات أو تقلبات الظروف مما يترتب على ذلك تعزيز الثقة والاطمئنان بين المتعاملين في مجال عقود التجارة الدولية.
إن مساحة المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية اتسعت وأصبح من المستحيل اعتقاد ديمومة الحال، بل أصبحت حزمة المتغيرات أكبر مما نظن وخاصة مع تبدل الأنظمة وتبدل السياسة الكاملة للدولة ومنها السياسة التجارية وأسلوب التعامل فيها وتظل العقود التجارية قريبةً من الأحداث ومتغيراتها حتى وإن كانت هناك عقود مبرمة إلا أن واقع التنفيذ يفرض قيوداً عملية تتطلب من الأطراف تحديث المعالجات القانونية، ولذلك كانت لقواعد الشريعة الإسلامية شمولية التطبيق من حيث الزمان والمكان، ووضعت لدائرة الفقه المتغير معالجة الأحوال حسب الزمان والمكان والحال بما لا يناقض المعاني الأصلية، فقاعدة الضرر يزال قاعدة متينة تختلف تطبيقاتها وفق فقه متوازن على حسب الأحوال، ولكن في النهاية يجب أن يزال الضرر، وعلى هذه تقاس الأمور.
وليكن واضحاً للقارئ الكريم أن التجارة الدولية في كثير من الأحيان تعتبر بمثابة محرك النمو، لكونها تساهم بشكل كبير في زيادة النشاط الاقتصادي لدول العالم، كما أن النمو الاقتصادي الذي يحدث في دولة ما يمكن أن يؤثر في نمط السلع والخدمات التي تتدخل فيها التجارة الدولية.
وإذا كان نمو اقتصاد الدولة يعتمد على زيادة التجارة الدولية، فإن الأمر يتطلب إزالة العوائق التي تواجهها، لضمان استمرار هذه العقود وضمان تنفيذها، وذلك لأن فعالية النظام القانوني الذي ينظم عقود التجارة الدولية لها أثر في زيادة حجمها واتساع نطاقها. لذا نجد أن إقرار المستثمر الأجنبي بالإقدام أو الإحجام عن التعاقد والاستثمار في بلد ما لا يتوقف على تقدير الأوضاع السياسية والاقتصادية السائدة في ذلك البلد فحسب، وإنما يتأثر أيضاً بمدى فاعلية القواعد القانونية السائدة فيه، بحسبان أن تلك القواعد عادة ما تحدد ضمان حقوق والتزامات الأطراف المتعاقدة ولعل هذه الرسالة تكون واضحة لهيئة الاستثمار والقضاء عموماً والقضاء التجاري خصوصاً ووزارة التجارة وكل الجهات ذات العلاقة بهذا الشأن.
أسأل الله كما أتم علينا نعمته أن يتم علينا بجنته وتذكروا مع تغير الأحوال أنه سبحانه بيده الأمر وإليه تصير الأمور ولا حول ولا قوة إلا بالله.