ليبيا .. الأوضاع تتجه نحو مزيد من التعقيد والتشابك

يبدو أن الأوضاع في ليبيا تتجه نحو مزيد من التعقيد والتشابك بما يفضي إلى تداخل الأوراق وصعوبة الاستقرار وإن تمت الإطاحة بالقذافي وعائلته من على سدة الحكم. لقد طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الأرجنتيني لويس مورينو أوكامبو رسميا إصدار مذكرات اعتقال دولية بحق الزعيم الليبي معمر القذافي ونجله سيف الإسلام وقائد جهاز المخابرات عبد الله السنوسي، الذي يعد من أبرز أعضاء الدائرة الضيقة التي يعتمد عليها نظام القذافي.
وبالنظر إلى مذكرة التوقيف الخاصة بالقذافي تحديدا والتي صدرت يوم 16 أيار (مايو) 2011 نجد أنها وجهت إليه تهمة ارتكاب نمطين من جرائم الحرب وفقا لتوصيف المادة السابعة من ميثاق روما. وقد زعم المدعي الدولي أنه يعتمد على أدلة ومعلومات موثقة بأن قوات الأمن الليبية قد قامت بأعمال قمع منهجية ومنظمة ضد السكان المدنيين وذلك بأوامر مباشرة من العقيد القذافي. ويمكن لقضاة الغرفة الأولى للمحكمة الجنائية الدولية قبول طلب المدعي العام الدولي أو رفضه أو مطالبته بتقديم مزيد من الأدلة والمعلومات. بيد أن خبرة الحالات السابقة تشير إلى أن قضاة المحكمة الدولية ربما يؤيدون إصدار مذكرات الاعتقال بحق الزعماء الليبيين وذلك في غضون بضعة أسابيع.
وترجع بدايات الأزمة الليبية مع المحكمة الجنائية الدولية إلى يوم 26 شباط (فبراير) 2011 حينما صوت مجلس الأمن الدولي بالإجماع على إحالة ملف الصراع في ليبيا إلى محكمة الجنايات الدولية وهو ما اقتضى أن يقوم المدعي العام الدولي بحملة تحقيقات رسمية في أحداث العنف التي شهدتها ليبيا بين قوات العقيد القذافي والثوار المطالبين بتغير النظام وبناء دولة مدنية ديمقراطية جديدة في بلادهم.

مرفق العدالة الدولية وإشكالياته
يمكن القول إن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية ــــ الذي دخل حيز التنفيذ عام 2002 ــــ يأتي تتويجا لحركة طويلة عبر الزمن كانت تناضل من أجل فرض قانون الجزاء الدولي، إذ بدأت هذه الحركة بعيد الحرب العالمية الثانية مع إنشاء المحاكمات العسكرية الدولية في نورمبرج وطوكيو. على أن هذه الحركة الدولية قد اكتسبت تأييدا واسعا منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي ولا سيما بعد تشكيل محاكم جنائية خاصة بالجرائم التي ارتكبت في كل من يوغوسلافيا السابقة ورواندا. والمتأمل لأداء المحكمة الجنائية الدولية التي تقبع في أحد المباني الأنيقة في ضواحي مدينة لاهاي يجد أنها لا تزال تعاني العديد من المشكلات والعقبات بعد نحو عقد من إنشائها. صحيح أنها أصبحت فاعلا دوليا مهما، واستطاعت أن تحقق في عدد من المآسي والجرائم الكبرى التي ارتكبت في السنوات الأخيرة مثل ما حدث في الكونغو الديمقراطية وأوغندة والسودان إلا أنها مع ذلك عانت من إخفاقات متعددة وثارت حولها شبهات كثيرة حتى أضحى البعض يتساءل حول وجوه العدالة الدولية المتعددة.
1-لقد أخفقت المحكمة الجنائية الدولية في الانتهاء من أي محاكمة عرضت عليها وإغلاق ملفها بالكامل. ولعل ذلك كان أمرا مثيرا للإحباط من قبل الضحايا الذين استبشروا خيرا بالمحكمة وبنظام العدالة الدولية. كما أن الدول التي أسهمت بنحو مليار دولار في ميزانية المحكمة منذ عام 2003 لا تشعر بارتياح من أداء المحكمة الضعيف. أضف إلى ذلك فإن المحكمة فشلت فشلا ذريعا في تنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة بحق بعض المتهمين وعلى رأسهم الرئيس السوداني عمر البشير وزعيم جيش الرب للمقاومة في أوغندة جورج كوني. ولعل ذلك كله يطرح العديد من التساؤلات حول مثالية نظام الجزاء الدولي الجديد.
2- اقتصرت حالات التحقيق التي بشارتها المحكمة الدولية حتى الآن على حالات ستة جميعها من إفريقيا، وهو ما دفع ببعض النقاد إلى القول بأن المحكمة أنشئت من أجل الأفارقة فقط، ولعل ذلك يطرح وصف المحكمة بأنها محكمة جزاء دولية على المحك. فثمة انتهاكات وخروقات لحقوق الإنسان ودلائل على ارتكاب جرائم يعاقب عليها نظام اتفاقية روما المنشئة للمحكمة وذلك في أنحاء أخرى من العالم، ورغم ذلك لم تحرك المحكمة ساكنا. ويمكن أن نشير إلى حالات العدوان الإسرائيلي المتكرر على الشعب الفلسطيني الذي جعل كثيرا من العرب والمسلمين يرون بأن الدولة الصهيونية هي فوق القانون الدولي.
3-لا تزال بعض القوى الدولية الكبرى مثل روسيا والصين والولايات المتحدة ترفض الانضمام إلى المحكمة خشية أن يتعرض مواطني هذه الدول للملاحقة والمحاكمة أمامها. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة بدأت تخفف من موقفها المتشدد إزاء المحكمة إلا أنها لا تزال تشعر بالقلق من نظام الجزاء الدولي الجديد. وعلى سبيل المثال فقد صوتت واشنطن في شباط (فبراير) الماضي لصالح إحالة ملف الأزمة الليبية للمحكمة الجنائية الدولية، في حين أنها امتنعت عن التصويت في حالة إحالة ملف السودان للمحكمة ذاتها عام 2006.
4-تعاني المحكمة مشكلات إدارية وتنظيمية تحد من كفاءتها وفعاليتها. إذ إن قيادة المحكمة لم تتغير منذ عام 2003، وقد ثارت كثير من الشكوك حول كفاءة المدعي العام الدولي مورينو أوكامبو. وعلى سبيل المثال لم يستطع مكتب الادعاء العام الدولي توفير الأدلة الكافية في قضية توماس لوبانجا قائد إحدى الميلشيات الكونجولية. لقد شوهد أوكامبو أكثر من مرة أثناء نظر هذه القضية وهو يعبث بهاتفه النقال، بل أنه غادر قاعة المحكمة متوجها إلى مدينة دافوس وذلك قبل إنهاء محامي الدفاع لمرافعته في هذه القضية.

تسييس العدالة الدولية
5- على أن أخطر ما يواجه محكمة الجنايات الدولية هو محاولة إضفاء الطابع السياسي عليها وإعطاء مجلس الأمن الدولي الذي تسيطر عليه القوى الكبرى حق إحالة القضايا إليها. وربما يبرر ذلك الاتهام للمحكمة أنها مجرد أداة سياسية في أيدي القوى الاستعمارية السابقة. وعليه فإننا أمام مشكلة الشرعية المتعلقة بوجود المحكمة ذاتها وإمكانية تقبلها من قبل المجتمع الدولي. إذ إنه على الرغم من توقيع نحو 31 دولة إفريقية على ميثاقها فإن باقي الدول الإفريقية وكذلك الاتحاد الإفريقي لا تزال ترفض تحقيقات المحكمة بشأن كل من السودان وكينيا. وقد أصبح من المعتاد اليوم أن نسمع بأن المحكمة الدولية أنشئت للأفارقة فقط، حيث إن جميع الحالات التي تنظرها في إفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية وكينيا وأوغندا والسودان وأخيرا ليبيا هي جميعها تقع في إفريقيا.
لقد فشل أوكامبو في إضفاء الطابع الدولي على محكمة الجنايات الدولية من خلال تجاهله فتح تحقيقات في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في مناطق أخرى من العالم مثل أفغانستان وكولومبيا وجورجيا وهندوراس وفلسطين المحتلة. وأحسب أن ذلك الأمر يبرر وصف المحكمة الدولية بأنها منحازة وغير موضوعية، حيث تقوم على اختيار وانتقاء حالات التحقيق.
إن مسألة اختيار القضايا أو استبعادها جعلت دوما مكتب الادعاء الدولي هدفا للانتقاد والاتهام والزعم بأنه جهاز مسيس. وعلى الرغم من أن المدعي العام أوكامبو أنشأ في إطار هيئة الادعاء الدولي العام مكتبا متخصصا للتنسيق مع الأجهزة والمؤسسات الدولية الأخرى لضمان أن المحكمة الجنائية تكمل عمل أجهزة التقاضي الوطنية فإن حملة الضغوط الهائلة والعقبات التي تواجه عمل المحكمة الدولية قد أفضت إلى التقليل من فعاليتها.

التداعيات على الحالة الليبية
لا شك أن إقرار قضاة المحكمة الجنائية على طلب إصدار مذكرات توقيف دولية بحق العقيد القذافي وابنه سيف الإسلام ورئيس جهاز مخابراته عبد الله السنوسي، وهو أمر محتمل في الفترة القصيرة المقبلة، سيكون له تداعيات خطيرة على الأزمة الليبية بما يؤدي إلى مزيد من التعقيد عليها. فقد عارض البعض منذ البداية تدخل حلف شمال الأطلنطي في الأزمة الليبية وطالبوا بالتوصل إلى حل تفاوضي ولكن موقف الجامعة العربية منذ البداية كان مؤيدا للتدخل العسكري الدولي في ليبيا.
وعلى أية حال فإن احتمال إصدار مذكرة اعتقال للعقيد القذافي تجعل من فرصة مساعي توفير مخرج آمن له معدومة تماما. فإذا كانت بعض الدول قد أبدت استعدادها منذ البداية لاستقبال القذافي فإن عليها اليوم مراجعة موقفها لأن عليها استقباله وعائلته. وثمة احتمال قوي بملاحقة أربعة آخرين من أبنائه لاحقاُ من قبل مدعي عام المحكمة الجناية الدولية. ومن جهة أخرى فإن ملاحقة سيف الإسلام القذافي جنائيا ستجعل من شبكة علاقاته الدولية التي أستطاع تكوينها أثناء إقامته في لندن أمرا لا قيمة له وتقلل من فرص التوصل إلى تسوية سلمية من خلاله. فهل يمكن أن تقبل الأمم المتحدة التفاوض مع أحد الأشخاص المطلوبين للمحاكمة الجنائية الدولية؟
إن السيناريو الأكثر احتمالا هو تزايد الضغوط العسكرية على نظام العقيد القذافي من قبل قوات حلف الأطلسي ومساعدة الثوار الليبيين حتى يتم الزحف إلى العاصمة طرابلس. وفي ظل حالة الانسداد السياسي وتلاشي آمال التوصل إلى حل تفاوضي لن يكون أمام العقيد القذافي من خيار سوى القتال حتى آخر طلقة كما تعود أن يهدد قي بياناته الثورية التي كان يطل بها علينا من حصنه المنيع في باب العزيزية.
إن سقوط القذافي أصبح أمرا لا مراء فيه. ولكن الإشكالية تكمن في إدارة أوضاع ليبيا المعقدة بعد رحيله. فإذا كان التدخل الغربي بقوات أرضية مستبعد فإنه من الممكن التفاوض في إطار الأمم المتحدة على قوات دولية لحفظ السلام والاستقرار في ليبيا. وربما يطرح البعض خيار قيام الدول العربية بدعم وتسليح الثوار الليبيين، بيد أن ذلك يرتبط بتعقيدات كثيرة ولا سيما في ظل حالة عدم الاستقرار والاحتجاجات الشعبية التي تشهدها كثير من الدول العربية. وعليه فإن رحيل نظام القذافي سيترك العديد من المخاطر والتحديات التي قد يصعب على الثوار مواجهتها وحدهم، وربما يدفع ذلك باب التدخل الدولي في الشأن الليبي مرة أخرى. وخلاصة الأمر أن العقيد القذافي قد أتعب شعبه أثناء حكمه وسيرهقه حتى بعد رحيله!.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي