البنية الاجتماعية اللازمة للتنمية الصناعية
في مقال الأسبوع الماضي تم التطرق إلى بعض التغيرات الاجتماعية التي شهدها المجتمع السعودي ضمن المسار الطبيعي للتغيير. وها نحن نكمل هذا الأسبوع بعض الأبعاد الاجتماعية ذات العلاقة بالتنمية، التي لا مناص من مواجهتها.
يعول الكثير من المهتمين بالتنمية على القطاع الصناعي في المملكة ويعلقون عليه الآمال لقيادة دفة التنمية لأسباب عدة، منها ما هو مرتبط بإمكانات القطاع نفسه، ومنها ما هو مرتبط بالمحددات التي قد لا تمكن القطاعات الاقتصادية الأخرى من تحقيق الكفاءة المثلى في استثمار الموارد المستهدفة. فالقطاع الصناعي - شاملا البترول والتعدين - قادر - بإذن الله - على معالجة الكثير من العقبات التنموية التي نواجهها اليوم مثل التوازن التنموي بين المناطق والبطالة وانخفاض الدخول وهيمنة القطاع الحكومي كموظف أساسي للسعوديين. وبالتالي، فإن بناء استراتيجيات التنمية سواء للوطن ككل أو للمناطق اعتمادا على القطاع الصناعي أو على الأقل جعله العامل الأساسي فيه من المنطق والواقعية الشيء الكثير. نحن كمواطنين نتطلع إلى اليوم الذي نشاهد فيه صناعات ثقيلة في جزء من وطننا، بينما يحتوي جزء آخر على صناعات تعدينية وجزء آخر تنمو وتزدهر على أرضه الصناعات التقنية النظيفة.
وعند تقييم وتحليل هذه النظرة التفاؤلية يتبادر إلى الذهن أمر مهم يتعلق بطبيعة وبيئة العمل التي تتوافق وتناسب القطاع الصناعي ونوعية التركيبة الاجتماعية التي تتواءم مع نوعية واحتياجات الإنتاج وخطوطه التي لا تقبل التوقف أو التأجيل، أو الظروف الاجتماعية التي تسود معظم بيئات العمل لدينا سواء في القطاع الخاص أو القطاع العام.
إن التجربة الصناعية في الغرب والشرق أعطتنا بعض القيم والمبادئ التي نشأت وتطورت تلبية لاحتياجات الثورة الصناعية ودورة الإنتاج في المصانع. فما أهم هذه القيم الاجتماعية حسب فهمي للقضية؟ أولا إن وجود قطاع صناعي منتج يتطلب بالضرورة وجود طبقة عاملة (مديرون وعمال فنيون وغير فنيين) تصرف معظم يومها في المصنع لا يمنعها ظروف اجتماعية طارئة من الذهاب إلى المصنع أو التأخر لساعة أو ساعتين؛ لأن ضيفا أو قريبا وصل فجأة ولا بد من القيام بواجب الضيافة نحوه بشكل شخصي لا يحل محلك ابن أو أخ وإلا لقامت القيامة - كما يقال في موروثنا الشعبي. ولعل من عمل أو يعمل في مؤسسات تحترم قيم العمل مثل ''أرامكو'' ومصانع سابك وغيرهما لديهم من القصص والمواقف ما يدعم هذه الحقيقة، ولقد شاهدت وسمعت منها الكثير. وإذا عرفنا أن كثيرا من المناطق والمدن التي نأمل قيام الصناعات فيها تكون البيئة الاجتماعية فيها أكثر تزمتا وهيمنة من المدن الكبرى، فإننا نستطيع أن نتوقع ما قد يواجهه القطاع الصناعي المستهدف بناؤه. أما الأمر الآخر من القيم الصناعية ذات التأثير فهي وجود الحجم المناسب للعائلة. فلقد سارت المجتمعات الصناعية في هذا المسار لأسباب طبيعية مرتبطة بما أشرنا إليه في أولا، حيث ديناميكية الحياة اليومية وما يتطلبه العمل في المصانع. ولذا لم يعد العامل في المصنع قادرا على وجود عائلة كبيرة لها متطلباتها، وأصبح الوضع المثالي وجود طفل أو طفلين أو ثلاثة على الأكثر هو ما تتصف به العائلة الصناعية مع أن الزوجة قادرة على القيام بكثير من المهام في محيط العائلة. إذا ما أخذنا واقعنا الاجتماعي المرتبط بهذا الشأن فلنا أن نتخيل كيف سيواجه القطاع الصناعي مستقبله، وبالذات في ظل ظروف المرأة السعودية التي يعرفها الجميع وكبر حجم العائلة وما يتطلبه من التزامات، لعل من أهمها إيصال الأبناء للمدارس، الذي يشكل هما وبعبعا لكل رب عائلة ملتزم لا يرى أن السائق الخاص هو الحل.
أمر آخر مهم له قيمته ووزنه عند محاولة فهم البنية الاجتماعية اللازمة لقيام نهضة صناعية في المملكة، ألا وهو موضوع الترفيه وضرورة وجوده كجزء من نظرية العمل التي أثبتت أن وجود الترفيه أمر ضروري لتحقيق الإنتاج. ومع أن الترفيه مطلب أساسي للجميع إلا أن طبيعة العمل في القطاع الصناعي وما يحتاج إليه من جهد وتركيز وساعات طوال يجعل هذا الترفيه حجر زاوية في بناء هذا القطاع. وهنا نشير إلى أن القضية ليست حدائق ومتنزهات فقط، بل مجالات ترويحية متنوعة تشمل السينما والمسرح والانطلاق الاجتماعي المتنوع.
هذه القضايا الاجتماعية التي أثرناها في المقال التي قد تعوق طموحنا في بناء قطاع صناعي رائد ليست مستحيلة الحل، بل تحتاج إلى حلول مبتكرة وجريئة من المختصين ومتخذي القرار في القطاعين العام والخاص تتغلب على خصوصيتنا المفرطة الحساسية وتفتح أمامنا أبواب المستقبل. إن بناء نهضة صناعية سعودية لا يمكن تحقيقه فقط ببناء مصانع، إنما ببناء عنصر بشري مؤهل يتمتع بقيم اجتماعية تتناسب مع احتياجات القطاع الصناعي وتتوافق إلى حد كبير مع النسق السائد في العالم. وكل محاولة لتجاوز هذه الحقيقة إهدار للمال وتضييع للفرص المتوافرة لنا في هذه الحقبة الزمنية النادرة. إن وقوفنا أمام تحديات التنمية وتركها لعامل الزمن فقط كي يحلها جريمة في حق الوطن سيدفع ثمنها الجميع.
طبعا نحن نفترض أن موضوع وجود سلم أجور مجز للعاملين السعوديين في قطاع الصناعة أمر مفروغ منه لا يحتاج إلى قيل وقال، وأنه خارج نطاق نقاشنا للبيئة الاجتماعية.
ماذا لو؟
ماذا لو كان أحد شروط إنشاء المدن الصناعية بناء مجمعات سكنية مخدومة تتوافر فيها المعطيات والمكونات التي تحد من القضايا الاجتماعية المعيقة للتنمية الصناعية، التي أوردنا بعضا منها في هذا المقال، واعتبار ذلك من البنية التحتية اللازمة مثلها مثل الطرق والكهرباء والماء والاتصالات؟