تنفيذ الأحكام القضائية

إذا كان تحقيق العدالة لا يتم إلا من خلال تنفيذ الأحكام القضائية وهذه قاعدة عامة لا مجال للاختلاف عليها، فإنه عند الحديث عن تنفيذ الأحكام نفرق بين أمرين الأول طبيعة الأحكام والآخر مضمون الأحكام.
وهناك فرق في تنفيذ الأحكام وفق اختصاص المحكمة، فلا يجب الخلط والتعميم في حكم يتعلق بالأحوال الشخصية كحضانة أو رؤية طفل، أو حكم جنائي بالقتل أو السجن أو حكم تجاري بتثبت حصة في شركة أو استحقاق في شراكة، أو حكم مالي بسداد مستحقات معلقة أو مقاولات بالتعويض أو بإكمال المشروع، أو حكم إداري بإلغاء قرار أو بتعويض، أو حكم مدني بإلغاء صك ملكية أرض أو نزعها.
وبالتالي فإن تنفيذ هذه الأحكام يختلف حسب طبيعة الحكم، بل إن تنفيذ الحكم بالحجز على المنقولات يختلف إذ كان على طائرة أو سفينة وتنفيذ الحكم بالحراسة القضائية يختلف إذا كان على شركة أو على أملاك في تركة، كل ذلك يجب أخذه في الاعتبار عند الحديث عن تنفيذ الأحكام من خلال النظرة المتخصصة في القانون.
وهذا يتطلب من أصحاب المصالح العلم بأن الموضوعات القضائية والحقوقية ومنها تنفيذ الأحكام ليس من السهولة بمكان كما هو في العالم كله، وبالتالي فإن الحديث عن عدم التنفيذ قد يرجع سببه في بعض الحالات إلى الجهل بتطبيق النظام إلى تداخل وتعارض بين بعض المراجع الحقوقية والأمنية وقد يرجع في أحيان كثيرة إلى تعارض الصلاحيات والأنظمة والتعليمات وضعف الإمكانيات المادية والبشرية من حيث التأهيل والعدد والإمكانيات في إطار ضعف عام للثقافة الحقوقية، يؤدي تأخير تنفيذ أو عدم تنفيذ بعض الأحكام.
ويكفي أن نعلم أن تنفيذ الأحكام ما زال منوطاً برخصة مهنية تصدر من وزارة التجارة لا تشترط أي مؤهل علمي لتعرف سبباً آخر لضعف تنفيذ الأحكام، وعلى وزارة التجارة إلغاء العمل بهذه الرخصة التي انتهى مفعول الحاجة إليها، والواجب هو أن يكون تنفيذ الأحكام وهو عمل قضائي ضمن مظلة القضاء ووزارة العدل وهو ما يتطلب تعيين عدد أكبر من قضاة التنفيذ تمهيداً لمحاكم تنفيذ.
والكل يعلم حجم المعاناة التي تصيب المتقاضين وجهات التنفيذ من صياغة بعض أحكام القضاء من غياب التسبيب وغموض نص وعبارة الحكم وهذه العيوب والأخطاء خطيرة خاصة ما إذا كان الحكم يتعلق بشق جنائي أو اجتماعي ـــ ولا يقلل ذلك من خطورتها في باقي القضايا التجارية والمدنية والمالية والإدارية ـــ إلا أن الشق الجنائي والاجتماعي له التصاق خطير جداً بالإنسان وحقوقه وكرامته وأسرته ومجتمعه، فإذا ما أضيف إلى ذلك التأخر في إصدار الأحكام لسنوات طويلة يتغير فيها حال الواقع والوقائع وتتغير وتتبدل فيها المراكز القانونية للأشخاص فيأتي الحكم بعيداً عن واقع حقيقة الوضع القائم ويؤدي إلى نتيجة حتمية وهي استحالة تنفيذ الحكم.
وهذا يجعلنا ندرك أهمية تأهيل وتدريب القضاة على العمل القضائي النوعي والمتخصص، فإذا كان هناك تدريب وتأهيل للعمل القضائي العام فالواجب الآن الانتقال إلى التدريب النوعي والعملي على العمل القضائي في المحاكم المتخصصة على أن يصبح التدريب بعد ذلك عملية مستمرة ودائمة على الأنظمة والقوانين ومستجداتها وطبيعتها حتى يمكن للقاضي تصور ما تنطوي عليه طبيعة هذه المستجدات عند إصدار الأحكام، فعلى سبيل المثال أحكام الحراسة تتطلب معرفة طبيعة النشاط وكيفية إدارته ليتسنى اختيار الشخص المناسب للحراسة.
وفي الأحكام الإدارية يتطلب الأمر تأهيل القاضي الإداري لمعرفة الفروقات الكبيرة في الأوضاع القانونية المستحدثة في التعاملات الحكومية وتعاقداتها المختلفة فقد تغير أسلوب العمل الحكومي وتطور إلى المشاركة بالتشغيل ثم إلى إصدار التراخيص ثم بالتمويل والإدارة ثم بالتخصيص ثم بالإدارة الإلكترونية في مجال الخدمات وغيرها، وهذه جميعها مفردات ومصطلحات ومعان لكل منها دلالتها ومعانيها وممارساتها يجب إلمام القاضي الإداري بها، بل يجب أن يدرك القاضي الإداري حدود السلطة التنفيذية وما لدى الوزارات من سلطة تقديرية ومصالح عامة يجب الحفاظ عليها وعدم المساس بها وألا يدخل شريكاً في رؤية السلطة العامة للجهات التنفيذية وعليه أن يدرك الوضع القانوني العام من بطء إجراءات تعديل القوانين لتتفق مع التغيرات السريعة والحديثة والمتطورة في العمل الإداري، كما يتوجب عليه التقيد بما نصت عليه المادة (44) من النظام الأساسي للحكم التي نصت على وجوب تعاون سلطات الدولة القضائية والتنفيذية والتنظيمية في أداء وظائفها وفقاً للنظام الأساسي للحكم وغيره من الأنظمة.
كما أن على القاضي الإداري الإدراك المسبق لآثار الأحكام بإلغاء القرارات فبمجرد الحكم بها دون تصور الحال الواقع والحقيقي يجعل الحكم كالعدم غير قابل للتنفيذ من لحظة نشوئه، فمثلاً إصدار حكم بإلغاء قرار جهة حكومية بإلغاء ترخيص ممنوح لإحدى مؤسسات القطاع الخاص يعني الحكم الضمني بإعادة الترخيص، ولكن ماذا لو تم تعديل النظام أو اللائحة المانحة لذلك الترخيص أصلا أو أنه أصبح من صلاحيات جهة أخرى أو أن المواصفات الفنية والقانونية والمالية والإدارية وحتى التقنية اللازمة للترخيص قد تغيرت بالكامل في عصر التقنية المتغيرة والمتجددة بشكل دائم وسريع وهي التي تفرض تعديلاً دائماً للمواصفات للحفاظ على أمن المعلومات والتصدي للجريمة المعلوماتية والإلكترونية التي تهدد الأمن الوطني للبلاد.
وجميع هذه الأفكار والرؤى يجب أن توضع في اعتبار القاضي عندما نتحدث عن مضمون الأحكام لأنها الأساس الذي يجب أن نبني عليه الحوار القانوني الهادئ البناء لأن من غير المتصور أن تتعمد جهة حكومية عدم تنفيذ الأحكام الصادرة عن القضاء إلا إذا كانت غير قابلة للتنفيذ في منطوقها الذي جعلها خارجة عن إطار الصلاحية، كما أنه من غير المتصور عدم تنفيذ بعض الأحكام من قبل إحدى الشركات إذ يتطلب ذلك الأمر إعلان إفلاس الشركة مما يضعها تحت خطر التصفية الاحتيالية ويجعل الشركاء والإدارة مسؤولين بالتضامن لسداد المديونية المحكوم بها وتسقط بذلك شركات تعتبر جزءا من الاقتصاد الوطني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي