هديل الحضيف .. التي سبقتنا!
.. لو كانت الحياة هي العطاء، والعطاءُ هو الحياة، التي جسدت ذلك هي هديل الحضيف. إذا كان النجاحُ هو شيءٌ يومي، بأن تعيش لغرضك لا هدفك، بقطف هبة اللحظات في أوانها، فمن جسد ذلك، هديل الحضيف. إذا كان شيء أهم من الأطياف تعيش بعد الموت، لتحضر في الآن، وتسبق للمستقبل.. فهكذا رأينا هديل الحضيف مساء الخميس الماضي في حفل توزيع "جائزة هديل العالمية" التي تشرف منتدى أمطار في استضافة فعالياتها.. أما من رأى فكل من حضر: المدونون، والمدونات، والقائمون على الجائزة.
كانت "هديل الحضيف" من أول من استكشف ميدانا صار عالما فرض نفسه، دخلته كما يدخل الكشّافون، وبقيت فيه كما يبقى المستكشفون، وتنقلت في أنحائه كما يجول الجغرافيون لرسم خرائطه ووضع التخوم.. إلى ما قبل عام 2008 لم يكن عالمُ المدونات والـ "فيسبوك" قد تمحور بجبروته الكوني بعد، وكانت هديل هناك من القادمين والمستوطنين الأوائل لتعلن عبر غرز علـَم مدونتها الشهيرة بأرضه، أن عالما جديدا افتراضيا أشرق على كل من وما في الوجود.. وأن هذا العالم الجديد سيغير الوجودَ المعروف إلى الأبد.
في الحفل تساوى الأبُ الدكتور "محمد الحضيف" في كرسيه، وبعينيه جهدٌ عميقٌ لا يخفى، لقد رأتْ هاتان العينان كثيرا، وعانت مما رأت كل عواطفه كثيرا.. إنه صورة من لحم ودم وعقل وقلب وضمير نحت أزميلُ الحياة فيه جروحه بوضوح، يبتسم كثيرا، ويعصر قلبك ذاك الابتسام. من أوجع الأشياء أن يبتسم من لا يستطيع أن يصرخ من قبضة المعاناة. تصل إليك معاناته وتشرخ عظمَ إحساسك، وتجد نفسَك ترد حزنا بذات الابتسامة، تساوى أبو هديل، ونسميه باسم ابنته، فهديل قلبت أشياء كثيرة مما تعودنا عليها، حتى وهي في عالم الخلود تمتد آثار تغييرها إلى عين تلك اللحظة في "أمطار"، فانقلب المثلُ المعروف: "كل بنت بأبيها معجبة"، إلى "كل أبٍ بابنته معجب" لم تقف كلمة هديل من شفاه الأب، تخرج من فمه ببطء وقوة تأثير وكأن الشفاهَ تصارع لحضن كل حرف من الاسم.. وكان يسبَح في شعوره العميق تصيدا للآلئ إنجازات ابنته، وما أكثرها.. وبعد أن تكلم كثيرا، واستأذن كثيرا، ولم يكن في القاعة من يريده أن يتوقف فاسترساله نقلنا إلى معارج من شعور جميل وشاعري مختلط.. حتى قال: "بعد وفاة هديل بزمن قصير هاتفني متابعوها لإقامة جائزة لها لضم إنجازات المدونين السعوديين والعرب، وقلت لهم: هديل بنتي خرجت من يدي.. كل ما قامت به صار لكم". ورأيتُ الرجلَ العظيم التواضع "سامي الحصين" والتأثير ينفر من كل عضلةٍ في وجهه.. ولم تخف اللحية أثر الحنـَك المهتز تأثرا. إنهم مجموعة عملوا من أجل شيءٍ واحد: الطاقة التي أشعلتها هديل الحضيف، أن تستمر.. وتضيء.
لما رأيت الشبابَ يأخذون بالتناوب جوائزهم في كل حقل تدويني عرفت أني أحضر مع صناع العالم الواقعي من خلال العالم الافتراضي، شباب يتعاملون مع معطيات العالم الافتراضي كجزءٍ من أطرافهم، عالم ولدوا ليروه ماثلا جدا في حياتهم. وجائزة هديل ليست من الجوائز الباهرة الفخامة والإخراج.. إنها جائزة بمحفل بسيط، بجوائز بسيطة.. ولكن المحافل الضخمة المطهمة ثقيلة مثل الموكيت الفاره الثقيل المصمغ بالأرض فلا يتزحزح، والمحفل الرقيق البسيط مثل بساط سحري خفيف يطير في الأعالي. بتلك الليلة القريبة طرنا على سجادة هديل..
الآن.. هؤلاء حكام العالم، شئنا ذلك أم لم نرده، إنهم الذين يتحكمون، وأقول لكم لن يتحكم فيهم أحد، لا قوانين ولا أنظمة، وأجد من العبث إصدار الرخص وإطلاق أنوف الشم والرقابة، فيمكنهم إعطاءك موقعا تراقب فيه وتطيل الرقابة، ويتحركون بخفةِ أسدٍ جبليّ في مواقع أخرى.
الدخول معهم، معرفتهم وأخذ آرائهم والاستنصاح منهم والاسترشاد بمعرفتهم صار أمرا واقعا، بل عملا وقائيا ضد ما نجهله. المدونون والفيسبيكيون والتويتريون يزحفون على العالم بسرعة البرق ويغطونه بالكامل، فكيف يراقب ويتحكم من تحت الغطاء في الغطاء؟ إلا لسبب واحد؛ هو أنهم لا يعلمون أصلا أن فوقهم غطاء.. لذا يكونون أول من تقع عليهم بروق ورعود المفاجأة.
رأيتُ الفرحة القصوى بوجوه الشباب المدونين، وأكيد بوجوه المدوِّنات، ولم نرهن طبعا لأنهن في قاعة أخرى، ولكن تشعر بتلك الخفة الأثيرية التي تطلقها فرحاتٌ محلقة، واكتشفنا أن هؤلاء الأقوياء المسيطرين يفرحون لسبب بسيط جدا: لأنه أقيم لهم ومن أجلهم. لا سرّ أكثر من ذلك!
إن الجائزة الهديلية آلية مناسبة لفهم غور هذا العالم الجديد، ولو اهتمت بها منظمة رسمية أكبر منها وأقوى تأثيرا، مع الحفاظ على خفتها السحرية، لجبنا بسهولة أعالي وأعماق العالم الجديد، وكما سبقتنا هديل، غرزنا فيه أعلامَنا!