الهند.. تغيرات داخلية ومصالح خارجية ورغبة في التعاون الاستراتيجي
على هامش مؤتمر اقتصادي عقد في دلهي أخيرا، وعلى مدار عشرة أيام التقينا نائب رئيس الوزراء ونائب وزير الخارجية، وانتقلنا إلى هيئة التخطيط الاقتصادي CII، وهيئة التخطيط التقني IIT، وهي هيئة انبثق منها 16 مؤسسة ومعهدا للبحث العلمي والتقني منذ عام 1950 وحتى اليوم، وهي موزعة في مختلف ولايات الهند، والنمو الاقتصادي يمضي ليلامس 9 في المائة ودخل المواطن في حده الأدنى ألف دولار للعمالة المدربة، وزرنا وزارة الطاقة والنفط وهيئة الصحافيين ومركز العلاقات الثقافية ومعهد الإعلام والجامعة الملية والمدرسة الهندية للعلوم الاقتصادية، وهي السابعة على مستوى العالم من حيث المستوى، وهي تبرع من رجال المال والأعمال الهنود وهي مؤسسة غير ربحية تمنح درجتي الماجستير والدكتوراه ويتقدم للتسجيل فيها 25 ألف طالب ويقبل منهم 500 فقط، وزرنا مدينة الأفلام في حيدر أباد وشاهدنا الاستثمارات في قطاع التقنية من قبل شركات عالمية، والتقينا وزير الأقليات وعلقت في حضوره عن معنى وزارة للأقليات في دولة دستورها علماني وتعنى بالمواطنة الهندية، ولماذا هذا التمييز؟.. وكان الجواب أن المساواة بين المواطنين يكفلها القانون، لكن المساواة الاقتصادية والاجتماعية تحتاج إلى تدخل الدولة من ناحية تنموية، وأفرد أشكالا عديدة من الدعم وكفالة سبل التعليم لمراحل متقدمة وبمنح حكومية.
سألت وزير الأقليات عن أنه وحسب معرفتنا، فإن كل الدول الصناعية تهتكت فيها منظومة القيم التقليدية، قيم الحصانة الاجتماعية والإنسانية والدينية، أو ضعفت قدرتها وحضورها ودورها، وساد بدلا عنها سلطة القانون وسلطة الدولة وسلطة الأطر المدنية، لكنها كدولة مترامية الأطراف، ينوف عدد سكانها عن المليار وملايين، فإن التنمية والتحديث صعبة جدا، وأن عدم توقع احتمال حدوث احتكاكات أمر غير مستبعد، وأن التطور الصناعي ينشئ طبقية جديدة اقتصادية مضافة لطبقية إقطاعية سابقة وطبقة عامة من الفقراء وطبقات دينية واجتماعية، ألا تخشى الهند الانزلاق نحو الصدام الداخلي والمجتمعي، إلى ثورة عارمة من الفقراء والأقليات.
قال ما قلته صحيح نظريا ومتوقع عمليا لو لم تتدخل الدولة في أمرين، الأول تطبيق النظام العلماني والمأسسة والقانون، والأمر الآخر التوزيع والعدالة التنموية، وإطلاق الحريات والرقابة والشفافية في جوانب عديدة، فقدر الهند أن تكون متنوعة قوميا ودينيا وعرقيا وفيها طبقيات مختلفة، لكن ما قلته للوزير أن سر قوة الهند ليست في النظام العلماني والديمقراطي، وإنما سر قوة الهند تكمن في عاملين مهمين، هما طيبة الهنود وتسامحهم وعدم ميلهم سلوكيا نحو العنف، وهذان العاملان سبب حالة التسامي على الاختلافات الطبقية مهما عظمت، ففي المشاهدة العيانية وجدنا أن الشخصية الهندية لا تميل إلى التكلف والبهرجة الإدارية، وإنما إلى الاستخدام الأمثل للموارد، وأن المسؤول الهندي ليس سلطان زمانه في مكانه، وإنما مواطن يشعر بأهمية خدمة بلاده وأنه ليس بأفضل من الآخرين، وأنه لا يختلف كثيرا عنهم في الملبس والمأكل والمشرب ومشاعر الاحترام المتبادلة، فرد الوزير ما قلته صحيحا وما دورنا التنموي سوى محاولة حكومية لمنع الاحتكاك، بل لتعزيز عوامل الاندماج والتعاون وبما يترافق وحركة التطور الاجتماعي والاقتصادي، وقال إن وزارة الأقليات تقدم 350 ألف منحة دراسية ومنحا للأطفال الراغبين في الدراسة، وتقدم الحكومات المحلية إعفاءات للأسر الفقيرة إعفاءات كاملة وصولا لمرحلة الدراسات العليا و950 ألف منحة لمرحلة الدكتوراه.
فقبل 20 عاما كنا نضحك كثيرا عندما يسألنا أكاديمي هندي: من أين أنتم؟.. لنقول له: عرب، ليرد علينا: يعني أنتم قرب بومباي، فالمسافة بعيدة وإن كانت تقريبية، ولكن ثمة جهلا وتخلفا، وثمة محلية مغرقة لدى الهنود، لكن الهند بعد 20 عاما بدت بالنسبة لي مختلفة، مختلفة في جيلها الجديد جيل التقنية واللغات، جيل لا يلقي بالا للفوارق أقلية وأغلبية، والهند لم تختلف في كل شيء بالطبع وإنما اختلفت في رؤيتها ومنطق تفكيرها، في تكاملها وانفتاحها على العالم، وغاندي قال سأفتح نوافذ بيتي على رياح العالم شريطة ألا تقتلعني من جذوري، ولهذا فإن الهند تعيش مرحلة الانفتاح والتعاون وفتح الأبواب والنوافذ، وقد أسهم الإعلام والاتصال والتشابك الاقتصادي في تعزيز هذه العلاقات وربما اللغة الإنجليزية أسهمت هي الأخرى بجعل الهندي أكثر انفتاحا على الآخر، ولكن من بوابات معلوماتية مختلفة، فهناك في الهند بعض منهم على علاقة وثيقة بالمنطقة سياسيا وأمنيا واقتصاديا وزارها مرارا، لكن بشكل عام مصدر المعلومات الهندية عن المنطقة يأتي عبر وسائل الإعلام الأجنبية والمصادر الأجنبية ليست منصفة لنا في أحايين كثيرة، رغم احتضان الهند آلاف الطلاب العرب، لكنهم طلبة ليست لهم أطر ثقافية وأطر وعلاقات مؤسساتية تجعلهم قادرين على التأثير وتحقيق الانفتاح الفاعل، لكن الاقتصاد والإعلام أسهما في توسعة الدائرة وتضييق المسافة وبدت الهند قريبة جدا من المنطقة، وإن بدت بعيدة أيضا.
الهند مشغولة جدا بالداخل، اقتصاديا وتقنيا وتنمويا وهي تعيش في ورشة عمل كبرى، ودلهي تظهر وكأنها مدينة عمل تصحو مبكرا وتنام مبكرا، وهناك يرابط هاجس الأمن والإرهاب في كل اتجاه، في الفنادق ثمة إرهاصات أمنية وحواجز إلكترونية، لكن الهند تتقدم إلى الأمام وتتحدى المخاطر، بكثير من الأشياء المبهرة والمتخصصة، والهند وعلى الرغم من آثار الإرهاب الأخيرة التي ضربت بومباي فهي لا تلتفت إلى الوراء كثيرا، بل عقدت العزم على السير إلى الأمام، وفي مقر جريدة "سياست" في حيدر أباد قال رئيس تحريرها ليس هناك عوائق أمام النقد، النقد أمر مفتوح في الهند ونحن ننتقد الحكومات ونطالب بالمزيد لتحسين أوضاع المسلمين، وقال أثناء جلوسنا معه أنه تلقى الآن اتصالا من نائب رئيس الجمهورية، وقد استمعت لعبارات الثناء على رئيس الوزراء الهندي منموهان سينج (سيخ) ومن شخصيات مسلمة.
في الهند كل التناقضات موجودة، الحلو منها والحار، الفقر والغنى الفاحش، أناس تركب الريكشا والباي سيكل وأناس تركب الطائرات الخاصة، أناس يعيشون في الهواء الطلق وآخرون يعيشون في قصور فارهة، لكن وجدنا رجال مال وأعمال يتبرعون بجزء كبير من ثرواتهم لأجل تنمية وتطوير الهند كما هو ومدرسة الهند للعلوم الاقتصادية، وجدنا الهندوسي يخضع إجلالا واحتراما لشخصية هندية مسلمة تكبره سنا، فالاحترام ممارسة أخلاقية وقيمية والصراع الديني ليس حادا وليس في صلب فكرة الهنود اليوم، وعندما زرنا مقر الهيئة الحكومية الخاصة بالأقليات في حيدر أباد تعمدت أن أخالف نمطية الأسئلة وأن أثير القضايا لأسمع الإجابة قلت إننا كصحافيين لا نؤمن كثيرا بالأرقام الحكومية، والتحليلات الحكومية، نحن في حاجة لأن نطلع على الوجه الآخر للهند للمعارضة الهندية لنقارن بين مطالبها وأهدافها وبين التنمية الطموحة للدولة، سألت عن الجغرافيا الواسعة وجغرافيا الأديان والقوميات وجغرافيا السياسة والأمن، فجاء الجواب: الهند بلد التنوع والثراء والأعماق التاريخية والحضارية المتنوعة، وبلد الثلج والمطر والصيف، والثقافات والعادات المختلفة بلد الهندوسية والسيخ والإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية، فكل الأديان موجودة في الهند، وهناك أديان كثيرة ولغات عديدة المعترف بها 22 لغة رسمية، ويبدو أن الاستعمار البريطاني قد لعب لعبته وأسهم في هندسة القوميات والأديان وآثار بعضها على بعض.
وعلى الرغم من أنه وبحسب تقديرات عام 2009 فقد بلغ الحجم السكاني 1.16 مليار نسمة. يشكل الهندوس 82 في المائة من السكان، بينما تتوزع النسب الباقية على المسلمين (13.4 في المائة) والمسيحيين (2.3 في المائة) والسيخ (1.99 في المائة)، وهناك أقليات أخرى أقل عددا تعتنق الديانات الجانية، والبوذية والزرادشتية واليهودية، لكن لدى الحديث عن الأقليات يكون المقصود به المسلمين، وهنا سألت وزير الأقليات: لماذا عندما يقال أقليات يقصد بهم المسلمين، بينما هناك أقليات أخرى، ولماذا طالما أن السيخ أقل عددا من المسلمين لماذا لا يكون هناك رئيس للوزراء بين المسلمين، ولماذا مناصب المسلمين في رئاسة الجمهورية برتوكولية؟.. وعلى الرغم من أن هذا الأمر شأن هندي إلا أني كباحث أطرح التساؤلات، وتساءلت عن تطلعات السيخ الانفصالية ومحاولاتهم الرامية لتكوين دولة خالستان في إقليم البنجاب، وهناك من يؤكد أن أنديرا غاندي اغتيلت على أيدي السيخ أيضا.
وتساءلنا عن المسجد البابري الذي دمر والذي يعود بناؤه إلى القرن الـ 16 خلال حكم الإمبراطور بابير (1526 - 1530)، وهو أول إمبراطور مغولي للهند. وبحسب معظم المؤرخين فقد بني هذا المسجد بأمر من أحد جنرالات بابير في أيودا، وهي بلدة صغيرة تقع في منطقة فايزآباد، حيث أكثر المناطق كثافة بالسكان في ولاية أوتار براديش في شمال الهند.
وقد سألت عن حزب الشعب الهندوسي (حزب بهاراتيا جاناتا) BJB المنبثق عن منظمة ثقافية تعرف باسم منظمة أر. إس. إس (راشتريا سويامسيفاك سانج) Rahtriya Swamsevak Sangh، ومعناها الحرفي المنظمة القومية للمعتمدين على سواعدهم.
حزب الشعب الهندوسي لديه إصرار وتعصب كبير على أن بابير دمر معبد الإله رام وبنى المسجد على أنقاضه. ومن المعروف أن رام إله هندوسي يزعم الهندوس أنه ولد في البقعة التي أقام فيها بابير المسجد نفسها. وعلى الرغم من أن النزاع حول الحق التاريخي مطروح أمام أنظار القضاء، فقد أكد وزير الأديان أن قرار المحكمة لم يصدر وأن حيثيات القضية تتجاوز 14 ألف صفحة، إلا أن حزب الشعب الهندوسي، تحت زعامة لال كريشنا أدفاني، الذي أصبح رئيسا لوزراء الهند (1998 - 2004) شن حملة واسعة النطاق مطالبا بالسيطرة على المسجد لهدمه وإعادة بناء معبد رام من جديد. وقد بدأت تلك الحملة في 1989 واستمرت إلى السادس من كانون الأول (ديسمبر) 1992، حتى اليوم الذي تمت فيه تسوية المسجد بالأرض.
وفي مدينة حيدر أباد التقينا عددا من الرموز الإسلامية من مثقفين ومفكرين والتقينا شخصيات تعود في أصولها إلى اليمن وحضارمة، لكنهم مندمجون في مجتمعاتهم، وقد تحدثنا إليهم بضرورة الاندماج في مجتمعاتهم والاستفادة من حركة العلم والتعليم والتطور، وعدم الانتباه كثيرا لمن يؤلبونهم على الدولة الهندية أو يدفعونهم إلى عدم التعاون والانسحاب؛ لأن هذا ليس في صالحهم مستقبلا، وقلت لرئيس الهيئة موجها الكلام للحاضرين من الهنود: إن عهد الأقليات قد ولى والأقلية الكبرى في الهند هي أقلية التخلف والفقر والبطالة، والأكثرية هي التي تتعلم وتعرف أساليب الحياة الجديدة وتستخدم التقنية وعلوم الاقتصاد وتمتلك وفرا ماليا، وقد لمسنا أن هذه الفكرة واضحة لدى النخبة المثقفة في مجالات التقنية والاقتصاد بشكل عام، وأن التخلف هو مصدر التطرف على أشكاله المختلفة.
والمجتمع الهندي بطبعة العام محافظ ومحاط بستار من القداسة وله خصوصية وآلية في الانفتاح والقبول الاجتماعي، لكن هذه الخصوصية بدأت تتغير تحت وقع عصر السرعة وعصر المحطات الفضائية العديدة في الهند، وبدأنا نسمع إلى جانب الموسيقى الهندية موسيقى غربية وموسيقى مستوحاة من القيم الصوفية، وبدأت الهند تفتح أبوابها الثقافية على العالم، وأصبحت الهند مركزا سياحيا واستثماريا عالميا ونقطة مهمة على خريطة الاقتصاد العالمي، ففي الشهر القادم ستفتتح الهند مكتبا ثقافيا في الرياض وهي الدولة الضيف على معرض الكتاب لهذا العام أيضا.
والمجتمع الهندي كبقية المجتمعات تزدهر فيه الرشا والبيروقراطية، لكن اللافت للانتباه تلك الفكرة التي اخترعها دكتور جامعي هندي بصك وطباعة ورقة عملة هندية بقيمة صفرية مكتوب عليها (أعدكم بعدم قبول أو إعطاء الرشا)، وقد قام الراشون باستخدام هذه العملة لمحاربة الرشا المنتشرة بكثافة في الوسط الإداري الهندي، ويقول أروموجام سوبر ماني رئيس عمليات منظمة فيفث بيلو (الركيزة الخامسة)، (لقد قمنا بتنظيم حملة تحت شعار "التحرر من الفساد". نقوم بتعليم تلاميذ تتراوح سنهم بين العاشرة والعشرين كيفية محاربة الفساد من خلال أداة مثل ورقة الصفر روبية. إذا أعطيت موظفا مرتشيا هذه الورقة النقدية، سينتابه الخوف؛ لأن القليل من الناس يرفضون دفع الرشوة. وسيتنازل بسرعة عن فكرة ابتزازك).
ولم تغب الجولة عن تساؤلات مرتبطة بالأحداث السياسية في الشرق الأوسط، وتحديدا ما حدث في تونس ومصر، وعلى الرغم من أن مصدر معلومات الهنود غالبيتها ليست من المنطقة، وإنما من وسائل إعلام ووكالات أجنبية، فقد كان السؤال الدائم وفي أكثر من مكان ماذا بعد مصر؟ والسؤال ينطوي على معارف تبدو ساذجة عن المنطقة على اعتبار أن أمريكا هي القدر السياسي، وأنها من تعطي الضوء الأخضر للتغيير، وقلنا إن العالم تغير منذ نهاية عهد المعسكرات الدولية، وتغير منذ عصر النت وثورة المعلومات، وبدا كقرية صغيرة، وتعولمت فيه القضايا الإنسانية، وتعولم الإرهاب، وتشابك اقتصاديا ومعلوماتيا، ولم يعد بإمكان الدول تغليف السموات بالرصاص، فالعالم يعيش ثورة وتحولا كبيرا في السلطة وبروز سلطات جديدة ومدنية جديدة وعوالم وأطر افتراضية جديدة، وأصبحت هناك لغات جديدة وعالمية ومشتركة، فبعد الأيديولوجيات جاءت رياح الديمقراطيات فتمأسست الحياة السياسية في الدول، والدول العربية ليست معزولة عن حركة المتغيرات العالمية، فبدأت الانتخابات الديمقراطية في البلديات والغرف التجارية والمشاركة في مجالس الشورى والبرلمانات وفي لقاءات صانع القرار السياسي، وبدأ عهد توزيع مكتسبات التنمية، وهناك صحافة متنوعة وهناك حرية رأي وفضائيات ومواقع إلكترونية ومطالب واستجابات والتطور يأتي خطوة بخطوة.
ولعل اهتمام الهند الرسمي بالمنطقة ينطلق من مجموعة الوشائج التاريخية والمصالح المتبادلة والجوار الجغرافي، والرغبة في التعاون الاستراتيجي في مختلف المجالات، وقد قلت لنائب رئيس الوزراء إن هناك من يحاول تضخيم دور وتطلعات الهند، وصورة الهند في الذهن العربي مرتبطة بالتوابل والتسامح والحياد الإيجابي، وبالتقنية الجديدة، ولهذا لا بد من تطوير وتعزيز الأطر والروابط، خاصة منتدى العلاقات الهندية الخليجية ومنتدى العلاقات العربية الهندية.