تكاليف التعاطي السطحي مع القضايا والمشاكل الأسرية والزوجية
في عالم تتحفز وتتشكل فيه مراكز الفكر والدراسات والبحوث المتخصصة بشكل متضاعف في الدول المتقدمة للتعاطي مع القضايا والمشاكل كأحد أهم أدوات صناعة واتخاذ وتنفيذ ومتابعة القرارات الفعالة في ظل التعقيد المتصاعد في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وقضاياها ومشاكلها في ظروف عولمة اجتاحت كل هذه المجالات، أقول في هذا العالم ما زلنا نتعاطى مع معظم قضايانا ومشاكلنا بشكل سطحي يثير الدهشة والاستغراب، بل ويثير تساؤلات حول مستوى الوعي الإداري في بلادنا فضلا عما يثيره من تساؤلات حول أثر ثقافتنا في أنماطنا الإدارية وتفضيلنا للحسم السريع على حساب التخطيط العملي (قصير ومتوسط وطويل المدى) المعزز بالتنظيم العملي.
في المجال الاقتصادي أستطيع القول إننا نتعاطى بشيء من العمق مع القضايا والمشاكل الاقتصادية حيث تبلي الحكومة بلاء حسنا في هذا المجال كما نحظى بمركزي فكر اقتصادي هما منتدى الرياض الاقتصادي الذي تنظمه الغرفة التجارية والصناعية بالرياض ومنتدى التنافسية بالرياض الذي تنظمه هيئة الاستثمار وبكل تأكيد ورغم ضعف موازنة هذين المنتديين (خصوصا منتدى الرياض الاقتصادي) نسبة إلى أهميتهما وما ينتظر منهما من جهة صناعة قرارات اقتصادية رشيدة وحث الجهات المعنية لإقرارها وتنفيذها ومتابعة تقويمها إلا أنهما يؤديان دورا جيدا نتمنى أن ينمو بمرور الزمن ونأمل أن ينهضا به بشكل أمثل بمرور الزمن وتوفير متطلباته.
في المجال الاجتماعي ورغم أهميته والمؤثرات الكبيرة التي يتعرض لها أفراد المجتمع السعودي بفعل العولمة بأبعادها كافة، حيث سهولة وسرعة حركة الأشخاص والأموال والممتلكات والمعلومات والمعارف والأفكار، وحيث انحسار تأثير الدولة القطرية في صناعة وعي المواطن وقناعاته واتجاهاته وتصرفاته، أقول رغم كل ذلك فإن الأجهزة الحكومية لا تنهض بمهتها بشكل فاعل في هذا المجال لضعف الدوافع والمحفزات لدى موظفيها سوى دوافع لقناعات فردية فإنني لم أجد مركزا فكريا واحدا يعنى بالقضايا الاجتماعية عموما والقضايا الأسرية والزوجية على وجه الخصوص والتي بدأت تتزايد بشكل مقلق حيث ارتفاع نسب الطلاق، والعنوسة، وتأخر متوسط سن الزواج، وضعف الاستقرار الأسري والآثار السلبية المترتبة على ذلك.
التصدي للقضايا الاجتماعية عموما والقضايا الأسرية والزوجية وبكل تأكيد لن تنهض به كما ينبغي سوى مؤسسات المجتمع المدني بالتكامل مع الأجهزة الحكومية ومنشآت القطاع الخاص ذلك أنها أسست على قناعات راسخة واعية تصل لدرجة الإيمان بضرورة التصدي لهذه القضايا والمشاكل حفاظا على الأسرة التي تعتبر اللبنة الأساسية في بناء المجتمع من خلال تقديم حلول نوعية فاعلة تعزز استقرارها وتجمع أفرادها في بيئة صالحة تمنحهم الدفء والحنان والتربية وتحد من تزعزها وتشتت أفرادها وما يترتب على ذلك من آثار سلبية لا تعد ولا تحصى، ولكن وللأسف الشديد فإنها تتعاطى هي الأخرى مع تلك القضايا بسطحية وبجزئية وبتقليدية تشير إلى أن روح التخطيط والابتكار والإبداع في الحلول ضعيفة إن لم تكن غائبة تماما، فما السبب؟
الإجابة معروفة وينطق بها أغلب العاملين في مؤسسات المجتمع المدني وهي ضعف الإمكانات خصوصا الإمكانات المالية التي أصبحت شحيحة جدا في ظل ظروف الأزمة المالية الحالية وفي ظل الخشية من ذهاب الأموال إلى جهات إرهابية تجمع الأموال تحت غطاء العمل الخيري، ولكن حسب اعتقادي أن هناك أسبابا أخرى تتمثل في ضعف الطموح وضعف روح المبادرة وقبول التحدي والعمل العشوائي دون تخطيط وتنظيم بل دون بذل جهود تفكيرية عميقة لفهم الواقع وتلمس إمكانات الشركاء ومساحات التشارك في القضايا وتحفيزها للتكامل في التصدي لها بطرق ابتكارية غير تقليدية تتناسب ومعطيات وظروف العصر، خصوصا أن الكثير من الأجهزة الحكومية المعنية ومنشآت القطاع الخاص لديهم طاقات وإمكانات تكاد تكون مهدرة لا تحتاج سوى قوة تخطيطية تنسيقية لتوجيهها لتحقيق أفضل النتائج.
كل اقتصادي يعلم أن تكاليف التعاطي السطحي مع أي قضية أو مشكلة وبكل تأكيد تعاطينا مع القضايا الاجتماعية بسطحية تفضي لقرارات وبرامج ومشاريع ضعيفة لا تسمن ولا تغني من جوع ذات تكلفة عالية على المجتمع والوطن لكونها تهدر الإمكانات من جهة وتراكم المشاكل دون حلول فاعلة لكي تتعمق بمرور الزمن ـــ وهو مورد مهم ـــ من جهة أخرى.
ومن أجل تعاطي علمي عميق مع قضايانا الاجتماعية عموما والقضايا الأسرية والزوجية على وجه الخصوص بات من الضروري أن تتبنى إحدى مؤسسات المجتمع المدني الوطنية التصدي لهذه المشكلة من خلال تأسيس مركز فكر متخصص لأهميته وضرورته لاستثمار الجهود والطاقات وتنسيقها وتوجيهها نحو تحقيق الأهداف الوطنية من خلال إنتاج المعرفة بما يوفره من فضاء رحب يجمع الطاقات العلمية والعملية المتعددة من مختلف التخصصات الأكاديمية والتوجهات البحثية والمدارس الفكرية من جهة، وتوظيفها من جهة أخرى بتوسيع القاعدة التطبيقية للإنتاج البحثي والفكري لبلورة تفكير مشترك منظم ومؤسس يستلهم رؤاه من ثوابت الشريعة الإسلامية السمحة والخبرات الوطنية والإقليمية والعالمية لتكوين أسس وبنى متطورة ومرنة لواقع ومستقبل الأسرة السعودية في مسارات صحيحة والمساهمة في التصدي للقضايا والمشاكل الأسرية.
ختاما .. أعتقد أن «جمعية مودة» التي تعنى بالاستقرار الأسري والتي ترأس مجلس إدارتها الأميرة سارة بنت مساعد بن عبد العزيز هي الجهة المثلى للنهوض بإيجاد مركز للفكر الاجتماعي خصوصا أنها جمعية وطنية موثوقة تعمل 100 في المائة لمصالحة ما أنشئت له من مهام فقط وهو أمر يجعل ثقة الأجهزة الحكومية ومنشآت القطاع الخاص والوسائل الإعلامية والخبرات المحلية والإقليمية والعالمية وأفراد المجتمع عالية جدا، والأمل معقود عليها لإيجاد مثل هذا المركز المهم والحيوي الذي يتكامل مع وزارات الشؤون الاجتماعية، والإعلام، والداخلية، والعدل، والشؤون الإسلامية والأوقاف، والتربية والتعليم، والتعليم العالي إضافة إلى مركز الحوار والوسائل الإعلامية الخاصة في التعاطي العميق مع القضايا الأسرية والزوجية التي تعنيهم جمعيا دون استثناء من أجل حلول عملية فاعلة.