المتدين ومعضلة التجديد في فهم الدين (4 من 10)

لعل أصعب إشكالية يواجهها المتدين في عصرنا الحاضر هي مسألة التجديد الديني, فهناك من يرفض هذه المسألة لفظا ومضمونا على اعتبار أن الإسلام دين إلهي، فهو لا يقبل التجديد ولا يمكن لأحد أن يجدده, فالنصوص الدينية عموما ترفض الفحص والنقد والرد. وإذا كان هناك من تجديد مطلوب فهو ليس تجديدا للإسلام كدين، بل تجديد المسلمين وتجديد عهدهم بالإسلام، وذلك من خلال انتزاع شركيتهم وجاهليتهم التي أبعدتهم عن الإسلام. فالمقصود بالتجديد إذا من وجهة النظر هذه هو المزيد من أسلمة المجتمع الذي بات أقرب إلى الجاهلية والشرك منه إلى الإسلام. هؤلاء الذين يأخذون بهذا الرأي أرادوا أن يحفظوا للدين قدسيته، لأن التجديد في نظرهم قد يعني الحذف أو الإضافة والاستبدال، وكل هذا يتنافى مع قدسية النصوص والتعاليم الدينية، لأن المقدس يفقد جزءا من قدسيته حالما يمس أو يتغير بانتزاع شيء منه أو إضافة شيء إليه. ولما كان حال الأمة الإسلامية على غير ما يريده الإسلام، وجد المتدين نفسه أمام إشكالية تفسير هذا الواقع المتخلف، وكان المخرج أن يُتهم المسلمون في دينهم، وأن يتهم المجتمع المسلم في عقيدته, فالمسلمون أعمتهم عن دينهم البدع والشركيات والخرافات والأباطيل، فصار المطلوب تنقيتهم من هذه البدع والشركيات ليحسن إسلامهم من جديد، وهذا هو التجديد إذا كان هناك من تجديد ديني. أما المجتمع فبات أقرب إلى الجاهلية لقبوله ما يفد إليه من أفكار ورؤى ونظم، وجد أنها أكثر فعالية مما عنده من أفكار ونظم يدير بها حياته ويسير بها شؤونه العامة، وكان الرد في رفض هذه الأمور والدعوة إلى التخلي عما استورد منها، حتى لو كان بالقوة والإكراه. فالتجديد من هذا النوع وبهذا الفهم أوقع المتدين في اشتباك مع الآخرين، وجعله في مواجهة واصطدام مع مجتمعه. ولعل في إطار هذا الفهم بذرت بذور ممارسة العنف عند بعض المسلمين وعند بعض الحركات الإسلامية.
في المقابل، هناك من يؤمن بحتمية التجديد في الأمور الدينية والدنيوية, والمتدين هنا ربما يواجه أناسا من مجتمعه نفسه، ويؤمنون مثله بالإسلام دينا لهم، ولكنهم يفترقون عنه بأنهم يقتربون من النص الديني أكثر منه, فهم يؤمنون بأن دورهم هو استنطاق هذا النص تحت مظلة الزمان الذي يعيشونه والمكان الذي يشغلونه, فالنص الديني وعاء لحقائق ومعارف منزلة، وهذا الوعاء تشكله لغة القوم وثقافتهم. فالدين متعدد المعاني بتعدد الثقافات، والدين بصورته الكلية قادر على أن يحتوي كل ما قد نجده من اختلافات وتباينات هنا وهناك. فقدسية النص الديني عند أصحاب هذا الرأي تعني الحفاظ على هذا النص بمضمونه لا بشكله، لأنه بتغير شكل ثقافة الناس يتغير أو يتشكل دينهم أو تدينهم, فلا يكون هناك تجديد ديني ما لم يسبقه تجديد ثقافي. وبما أن ثقافة مجتمعاتنا على العموم في حاجة إلى انتشالها مما هي عليه من انغلاق وتمحور حول قيم وأخلاق وقناعات تصطدم بحاجات العصر ومتطلبات المستقبل، فإن المطلوب هو انفتاح هذه الثقافة على الثقافات الأخرى لإعادة الحياة والحيوية لها. فبالانفتاح الثقافي يستطيع المجتمع أن يكتشف المكونات والعناصر الثقافية التي أعاقت نهوضه وأخرت تقدمه في السلم الحضاري. فالتجديد الذي يؤمن به هذا الطرف بوابته الثقافة، ومن أغلق باب ثقافته ومنع عليها أن تنفتح وتتفاعل مع الثقافات الأخرى سيكون قد حكم على الدين بالجمود والتأخر عن ملاحقة الواقع. ولكن هكذا معنى للتجديد يصعب على الكثير من المتدينين قبوله والرضا به, ولعل الرفض الواسع والصريح لمثل هذا الطرح في التجديد هو الذي مهد الطريق لفتاوى ودعوات لتكفير أصحاب هذا الرأي, فمن ينتزع القدسية من النص الديني ترفع عنه الحصانة الشرعية في نفسه وماله وسمعته, من وجهة نظرهم, ولكن تبقى المشكلة حتى عند المتدينين أنفسهم، بأن الكثير من الأسئلة التي يطرحها أصحاب هذا الرأي ما زالت تنتظر إجابات مقنعة. إن أصحاب هذا الرأي ليسوا بغرباء على المجتمعات الإسلامية، بل إن الكثير منهم قد درس وتعلم وتخرج في مؤسسات تعليمية إسلامية، وهم مقتنعون بأن غربتهم القهرية في مجتمعات غير إسلامية على أطراف العالم الإسلامي ستتيح لهم ـــ وبما لديهم من حرية فكرية وأجواء منفتحة ـــ الفرصة لبلورة وتعزيز أسس هذا الطرح لمعنى التجديد الديني، وسيشتد أثرهم وتأثيرهم في المجتمعات الإسلامية للقبول بهذا التجديد. فالفكر الديني في مركز العالم الإسلامي لم يعد قادرا على تجديد نفسه، وستناط مهمة التجديد بالأقليات الإسلامية التي تعيش على أطراف العالم الإسلامي، وهي التي تعيش الإسلام بثقافة العصر.
وهناك طرف ثالث له وجهة نظر عن التجديد الديني تختلف عن الآخرين, فهذا الطرف يتفق مع الطرف الأول في قدسية النص الديني وحرمة المساس به تعديلا أو تغييرا، إلا أنه لا يعطي هذه القدسية لفهم النص الديني. فالتجديد هو مبادرة تتحرك في إطار فهم النص الديني من خلال معاودة قراءته كل ما استجد عند الإنسان من أدوات فكرية وعلمية وحتى نفسية تسمح له بالاقتراب أكثر وأكثر من معنى هذا النص. فالتجديد بهذا المعنى هو جهد يحرص على البقاء تحت مظلة النص, فقراءتنا للنص الديني وفهمنا له هو محل التجديد, ولما كان الفهم محدودا بطبيعته نظرا لنسبته للإنسان يصبح التجديد ضروريا ليتسنى لهذا الفهم أن يتكامل ويزداد رقيا. ومن هذا المنطلق يرفض الدعاة لهذا النوع من التجديد أن يستدرجوا للبحث عن مشروعية التجديد، لأن الأمر الضروري تكون مشروعيته جزءا منه وليست خارجة عنه.
فأول مطلب للتجديد الديني الوصول إلى النص الديني, فالنص الديني تتراكم حوله دوائر من الفهم المتعدد والقراءات المختلفة والتفاسير المتباينة، مما يعوق من التواصل مع النص, فالكثير من هذه القراءات صارت لشدة التصاقها بالنص لها سلطة تتحكم في فهمنا ووعينا بالنص. فالتجديد هنا لا يعني إلغاء هذه القراءات وحذفها بالكامل، لأنها تمثل تراكما معرفيا لا يُستغنى عنه، ولكن المطلوب تخليص هذا النص من سلطة وهيمنة هذه القراءات لتتاح الفرصة لظهور فهم وقراءة جديدة. ففهم النصوص الدينية في ظل وجود ارتقاء حضاري وتقدم فكري وازدهار اقتصادي، يختلف عنه عندما يكون هناك تراجع حضاري وتأخر فكري وعلمي واقتصادي. ففهم مجتمع ووعيه بنص ديني معين ربما أفاده في ظل ما كان يحيط به من ظروف، ولكن هذا النجاح لا يمنع من مراجعة هذا الفهم ولا يعطيه الحصانة من النقد.
ومنفعة أخرى للتجديد هي تخليص النصوص الدينية مما هو غير ديني, فقدسية الدين قد تغري الكثير إلى توظيف الدين في خدمة مآربهم. فمهمة التجديد هي تقصي الكثير من الأمور التي ليست من الدين، ولكنها أخذت اللباس الديني مع الزمن، ومن ثم يكون من مهمة التجديد تجريدها عن دينيتها. الكثير مما هو موجود الآن عند المذاهب والطوائف الإسلامية المختلفة، ربما كان نتاجا لثقافة المذهب والظروف السياسية والاجتماعية التي مر بها، ولا علاقة للدين بها ولكن تشكل هذه الأمور اليوم عناصر مهمة في رسم صورة المذهب عند أصحابه وعند الآخرين. فالبعض يرى أن التجديد الديني خير وسيلة لإنجاح مسألة التقارب بين المذاهب وتخليص المسلمين من ويلات الطائفية.
وهناك من يرى أن ممارسة التجديد الديني تجعل المجتمع أقدر وأجرأ على ممارسة التغيير والتجديد في نواحي المجتمع كافة, فعندها يكون التجديد الديني ليس فقط خطوة مهمة ونافعة للدين، وإنما لنهوض وتنمية المجتمع. فسبب تأخر المجتمعات الإسلامية وتخلفها عن اللحاق بركب الحضارة الإنسانية عجزها عن تجديد فكرها الديني، لأن العجز في دائرة كبيرة بكبر دائرة الدين تجعل من المجتمع أضعف من أن يأخذ زمام المبادرة في تجديد الجوانب الاقتصادية والتعليمية والثقافية. فالفشل في تجديد الفكر الديني يعني الفشل في الجوانب الأخرى, فالتجديد في الفكر الديني بهذا المعنى هو البداية لعودة الروح والحياة للمجتمع.
ثمة نقطة مهمة وأخيرة، وهي أن نعي أن الدين ما جاء إلا ليرتقي بالإنسان، وبالتالي فالاشتغال على تجديد فهمنا للدين محوره الإنسان, وكل تجديد لا تكون بوصلته إنسانية فهو ليس بتجديد وإنما هو شيء آخر، ولعل هذه الحقيقة هي ما تفسر لنا إخفاق الكثير من محاولات التجديد في تغيير واقع الأمة الإسلامية في الماضي والحاضر. فالمناخ الإنساني للتجديد هو الذي يضمن إيجابية التجديد، لأن التجديد بالمطلق ليس بالضرورة أن يكون إيجابيا، فهناك من التجديد ما يكون سلبيا في الدين والمجتمع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي