غازي القصيبي .. وسكنت العاصفة

من النادر أن تجد إنساناً يجمع بين عديد من المواهب والاهتمامات وينجح فيها جميعاً رغم ما بينها من اختلاف، لكن الدكتور غازي القصيبي ـــ رحمه الله ـــ امتلك موهبة القدرة على العطاء في أكثر من مجال وبنجاح دون أن يطغى مجال على آخر، فغازي القصيبي الشاعر والأديب ذو الحضور الإعلامي والثقافي الطاغي على الساحتين المحلية والعربية، هو نفسه غازي القصيبي المسؤول الذي حقق إنجازات كبيرة فيما تولاه من مناصب وزارية، أو عمل دبلوماسي، وقد استطاع القصيبي باقتدار أن يزاوج بين مواهبه واهتماماته المتعددة، فلم يسرقه العمل الحكومي من شعره ونثره، ولم تؤثر اهتماماته الثقافية في عمله الرسمي.
غازي القصيبي رغم اسمه الكبير وما يتميز به من مواهب متعددة كان بسيطاً في تعامله، لا يأنف أن يعلق على رأي يطرح أو يرد على وجهة نظر تنتقد، بل كان يتعامل مع هذه الآراء، وإن كان بعضها حاداً، بروح مرحة متقبلة للرأي المخالف، وكان يسعى من خلال ردوده إلى تبيان وجهات نظره بصدق ووضوح, ولا يأنف أن يعترف بفشل أو إخفاق.
أثناء حرب تحرير الكويت بعثت له برسالة هي رسالة قارئ لما كان يكتبه تحت عنوان "في عين العاصفة"، وكان الرد من القصيبي, وهو سفير المملكة في البحرين آنذاك, مكتوباً بخط يده، وبعد ذلك بقرابة ثماني سنوات بعثت له بنسخة من كتاب "قراقوش المظلوم حياً وميتاً" لأفاجأ بمقال كتبه في "المجلة العربية" مبديا رأيه فيما حواه الكتاب من دفاع عن شخصية بهاء الدين قراقوش، ورأى أنه مهما كتب عن قراقوش إلا أن السيرة الشعبية ستظل هي المهيمنة .. وخلال السنتين الماضيتين تلقيت منه عدة رسائل تضمنت تعليقات على ما كتبته في صحيفة "الاقتصادية" عن وزارة العمل وبشكل خاص عن الاستقدام، وكان لا يكتفي بما هو مطبوع في الرسالة، بل يذيل الرسالة بتعليقات بخط اليد، وهذا التعامل الراقي، لم يكن خاصاً، بل كثير من الناس لديه تجارب مماثلة مع غازي القصيبي.
كان ـــ رحمه الله ـــ واثقاً من نفسه ثقة زادته تواضعاً، وهي ثقة كانت في محلها، فقامة مثل غازي القصيبي بما حوته من مواهب وقدرات وفصاحة وبيان يحق لها أن تصل إلى مرحلة السمو الذي يدفع الإنسان إلى التواضع.
غازي القصيبي عرفناه في عديد من المواقف الوطنية والثقافية، سواء من خلال ما تولاه من أعمال، أو من خلال تسخيره قلمه ولسانه للذود عن الوطن والدفاع عن مواقفه، عرفناه من خلال "في عين العاصفة", التي كانت تعادل كتيبة قتال، كما عرفناه من خلال قصائده الوطنية المتميزة.
لقد حقق الدكتور غازي القصيبي نجاحاً كبيراً في المهمات التي تولاها، سواء ما يتعلق منها بالوزارات التي تسنمها، أو عمله سفيراً لدى البحرين والمملكة المتحدة، وحينما تولى وزارة العمل كان الطموح يملأه لتحقيق إنجاز يتمثل في تعديل وضع العمالة في المملكة والدفع بالمواطنين إلى سوق العمل، فتحمس لبرنامج السعودة، بل أطلق وعودا بتحقيق إنجازات كبيرة في هذا المجال، كما قام بزيارات لعديد من مواقع العمل مشجعاً وحاثاً الشباب على اقتحام سوق العمل، ولم يتوان عن مشاركة العاملين في المطاعم أعمالهم ليكون قدوة للشباب، إلا أن طوفاناً كبيراً كان يواجه هذه الخطوات، وهو طوفان الاستقدام، فصمد الدكتور غازي في وجه هذا الطوفان، وحاول إقناع رجال الأعمال بأهمية فتح مجالات العمل للمواطنين، كما سعى إلى تقليص التأشيرات، فكسب عداء المستفيدين من الاستقدام، ولم يحقق طموحاته في مجال السعودة .. وكانت تصريحات الدكتور غازي وتعقيباته على ما ينشر تفصح عما في نفسه من ألم وإحباط شديدين على ما يشاهده من خلل في سوق العمل.
غازي القصيبي وقف في وجه عواصف كثيرة: فكرية, سياسية, وعملية, واستطاع أن يواجهها بعزيمته القوية وابتسامته التي لا تفارقه، ثم غادرنا تاركاً ذكرى جميلة، وسيطل علينا اسمه تكراراً، كعلم من أعلام الثقافة والأدب ومدرسة في فن الإدارة.
رحم الله الدكتور غازي القصيبي، فقد كان عف اليد واللسان، وفياً لوطنه وقلمه، الذي رافقه حتى الأيام الأخيرة من عمره.
ولعل أصدق تصوير لما كان يشعر به الدكتور غازي من أحاسيس في سنواته الأخيرة هو ما كتبه في قصيدة "لك الحمد", وما سطره في قصيدته "حديقة الغروب", التي كتبها قبل خمس سنوات حينما كان في الخامسة والستين من العمر، وأبياتها الأخيرة تشي بما في نفسه ـــ رحمه الله:
يا عالم الغيب، ذنبي أنتَ تعرفُه
وأنت تعلم إعلاني .. وإسراري
وأنت أدرى بإيمانٍ مننتَ به
عليّ.. ما خدشته كل أوزاري
أحببتُ لقياك .. حُسنُ الظن يشفع لي
أيرتجَى العفو إلا عند غفارِ؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي