بين أمريكا والسعودية .. طلابنا أنموذج

عندما يعيش أبناؤنا وبناتنا لأغراض الدراسة أو العمل أو لزيارة طويلة نوعاً ما في المجتمعات الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، نلاحظ تغيراً إيجابياً في سلوكهم وطريقة تفكيرهم بل إنهم في حالات كثيرة، يتفوقون علمياً وعملياً، عما كانوا عليه إبان فترة عيشهم في المملكة. وهناك عدد من الحالات التي نراها ونعيشها في كل يوم بين أخ وأخت وابن وبنت وأقارب وقريبات وأصدقاء وصديقات، عاشوا تجربة الانتقال والعيش في أمريكا وغيرها من الدول والمجتمعات المتقدمة لفترات طويلة، تثبت بشكل جلي وصارخ التطور الأخلاقي والعملي والسلوك الحضاري الذي ينشأ لهؤلاء الأفراد جراء اندماجهم في مجتمعات تتميز بالجدية وحب العمل والصدق في المعاملة والالتزام وغيره وغيره من السلوكيات الإيجابية. ويظل السؤال قائماً، لماذا هذا التحول والتغير الإيجابي من قبل أفراد المجتمع؟ ولماذا نظل مأسورين لعادات وسلوكيات غير مقبولة وأحياناً مضرة بالمجتمع وتقدمه، ناهيك عن رفض الشريعة الإسلامية لها في المقام الأول؟ ولماذا (وهو الغريب والمحير) يعود أكثر من يعودون من دراستهم وعملهم في الغرب إلى ممارسة سلوكهم الذي تعودوا عليه قبل ذهابهم إلى الغرب. لنا أن نتأمل في كم من الحالات التي تم إعادة تشكيلها وتفجرت طاقاتها بعد خروجها وذهابها إلى الدراسة في الولايات المتحدة على سبيل المثال. فهناك مثلاً، سعد الذي تحصل بالكاد وبضغط من عائلته على تقدير (مقبول) من الجامعة المحلية في السعودية، ليحصل على وظيفة (وبالواسطة) في إحدى الشركات، التي أرسلته إلى الولايات المتحدة لدراسة اللغة لسنة واحدة. وأثناء الدراسة، وفي ظل وجوده في بيئة تحفيزية وعملية وجدية ومنافسة بين أقرانه، يكتشف سعد أنه ضيع سنوات عمره على لا شيء، ليبدأ العمل بجدية ومثابرة وينهي دراسته بتفوق متقناً اللغة، وليصبح من أكبر المديرين التنفيذيين في الشركة خلال أقل من خمس سنوات. ويتحدث سعد، دائماً، بأنه لو أعاد دراسته الجامعية لأصبح من المتفوقين، ويضيف أنه يمكن له تحقيق ذلك بسهولة، متأسفاً، في الوقت نفسه، لحال الطلاب في الجامعات والتعليم العام وانشغالهم في الملهيات على حساب بناء أنفسهم ومستقبلهم.
وهناك سارة ابنة الثماني سنوات، التي كانت أحد مخرجات التعليم العام في المملكة، التي ذهبت مع والديها إلى أمريكا، لتنفجر طاقاتها الإبداعية (للتفاصيل: ''الاقتصادية'' العدد 5971 التاريخ 15/2/1010). سارة، ونتيجة تعودها على الحفظ والتلقين السائد في نظام التعليم في المملكة، اتهمت من قبل مدرستها الأمريكية بالغش. وبعد عمل دؤوب من قبل إدارة ومعلمات المدرسة الأمريكية، أضحت سارة من المتفوقات حتى التحقت حديثاً بكلية الطب. وهناك أكثر من (4.5) مليون طالب وطالبة ما زالوا يبحثون عن فرصتهم لتفجير طاقاتهم وتحقيق طموحاتهم.
وبالنسبة لسعاد الحاصلة على بكالوريوس من إحدى الكليات المحلية في مجال الصحة، فقد ذهبت مع زوجها مرافقة، وبجهود ذاتية ومضنية ومعاناة وتحد وأمام مسؤوليات متعددة وإرهاق، حرصت سعاد على استثمار أي فرصة تحصل عليها لمواصلة تعليمها، فقامت بتعلم عدد من اللغات وبإتقان، حاصلة على شهادات عليا فيها. وعلى الرغم من اضطرارها إلى العودة مع زوجها إلى المملكة، إلا أنها لم تتوقف عن مواصلة رحلتها العلمية التي بدأتها في الولايات المتحدة، لتدخل في تحد أكبر في ظل عملها كأم مسؤولة مسؤولية كاملة عن الأسرة، وعملها في وظيفة دوام كامل، وفي مجتمع يعتمد على الرجل بشكل أساسي لإنجاز جميع أعمال المرأة، لتواصل دراساتها العليا وبتفوق ملحوظ. الدكتورة سعاد، الآن وبكل فخر، تتبوأ أعلى المناصب وتقود وتسهم بكفاءة وإخلاص في مسيرة الرقي بالمجتمع السعودي وبالفتاة السعودية في مجالات الصحة وغيرها.
تقول لي إحدى القريبات، وهي معلمة، إنها فوجئت، هي وأولادها، بابنها علي, العائد من الولايات المتحدة في إجازته السنوية، بقيامه بغسل الصحون في المطبخ بنفسه بعد انتهائه من تناول الغداء، وحثه إخوته وأخواته على ضرورة الاعتماد على أنفسهم في كل شيء وفي كل مكان، وتنمية حب العمل والإخلاص فيه. ومن شدة فرحها وفرح وتفاعل جميع أفراد العائلة مع التحول الجذري في شخصية وسلوك علي، قررت الاستغناء عن الخادمة نهائياً، في ظل مشاركة الجميع في مهام وأعمال المنزل. بعد سنة من هذا الحدث، أخبرتني قريبتي أنهم ليس فقط لم يستعينوا بخادمة بعد، ولكنها لاحظت تغيرات إيجابية في سلوك وعادات أبنائها وبناتها، وكذلك تفوقاً في دراساتهم، وأصبح لديهم طموحات وهمة عالية، لم تكن ظاهرة عليهم من قبل. وهناك حالات أخرى أكثر وأكثر، ومع التوسع الذي نشهده في ابتعاث أعداد أكبر من طلابنا وطالباتنا، وصل إلى أكثر من 70 ألفا، نشهد ونلاحظ مواقف إنسانية وسلوكية متغيرة وعجيبة ومحيرة في الوقت نفسه.
لا شك في أننا نتأثر ونؤثر في البيئة التي نعيش فيها. فالإنسان يتأثر بالبيت ووالديه بشكل أكبر في المراحل الأولى من عمره، ومن ثم يتأثر ويتشكل في مراحل التعليم العام المختلفة، وأخيراً، وبشكل متزامن، يتأثر بالمجتمع الذي يعيش فيه والأنظمة التي تحكم المجتمع وتعاملات أفراده في الحي، والشارع، والمرور، والنظافة، والمدرسة, والتعاملات بين الأفراد والأدب والخلق وغيرها. فإذا كانت البيئة تشجع على العمل والدراسة والمثابرة وتحمل المسؤولية والصدق في المعاملة وخلق الطموح والتنافس الإيجابي، فسوف ينشأ أفراد المجتمع ويعملون بهذه الأخلاق بشكل تلقائي، وأي شخص يحيد عن هذه الأخلاقيات، سيتم نبذه من المجتمع، بل معاقبته من القانون بشكل أو بآخر.
البيئة بما تحمله من أنظمة متقدمة وأعراف وقيم تفرض أداء الواجبات وتحمل المسؤوليات وتفرض العقوبات في حالة التجاوزات وتكفل الحقوق لجميع أفراد المجتمع، دون تمييز بين أحد، فالنظام يطبق على الجميع، الوزير قبل الموظف، والكبير قبل الصغير، والغني قبل الفقير، والقوي قبل الضعيف، والرجل قبل المرأة، والمواطن قبل المقيم. في المجتمعات الغربية مثل الولايات المتحدة ، لا يمكن لأي من كان تجاوز إشارة المرور، أو تجاوز السرعة القانونية، أو الكذب، أو الغش، أو إساءة التعامل مع أفراد أسرته، أو استخدام النفوذ والصلاحيات لمصالح شخصية، أو أخذ مبالغ مالية بغير وجه حق، أو حسد الآخرين على تفوقهم وقدراتهم ومناصبهم, حيث الكل مشغول بتطوير نفسه، وغيرها من التجاوزات المحتملة، دون أن يتعرض لأشد العقوبات النظامية أو الاجتماعية، ولا يمكن لواسطة أو غيرها أن تعفيه من العقوبة. وهذا ما يجعل أبناءنا وبناتنا، حين انتقالهم إلى مثل هذه المجتمعات، يتغير سلوكهم بطريقة إيجابية، والتي يمكن تفسيرها بأن الإنسان طيب في قرارة نفسه ويتكيف مع البيئة التي يعيش فيها من ناحية، ويحترم النظام والأعراف التي يتم تطبيقها وبحزم وعدالة بين الجميع.
في المقابل، نرى سلوك بعض أفراد المجتمع ومعهم بعض الأفراد الذين عاشوا في المجتمعات الغربية يتغير إلى الأسوأ حين عودتهم إلى أرض الوطن، فالكسل وكره العمل ظاهرة بين شباب اليوم، وعدم احترام الأنظمة والقوانين مثل تجاوز السرعة القانونية يمثل سلوكاً شائعاً، والكذب في بعض المواقف أمر عادي، والغيرة والحسد ديدن وعشق البعض، والتنافس اللا أخلاقي بين الأقران، واختلاق وتلفيق القصص للتفريق بين الإخوة والأصدقاء، واستغلال الصلاحيات والفساد المالي ليس أمراً غريباً، وغيره وغيره من الممارسات غير الأخلاقية، والتي تمنع وتقف حداً في طريق تقدم المجتمع. ويبقى السؤال قائماً، لماذا يتجاوز البعض من مسؤولين وأفراد النظام والأعراف وبشكل متكرر، دون خوف أو تردد، وكأنه لا يوجد نظام؟ وما زلنا نبحث عن الجواب الشافي لكي نبدأ العلاج الشافي!
وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي