تحول عالمي يعيد تشكيل أسواق الائتمان

شهدت أسواق الائتمان العالمية خلال العقد الماضي تحولاً هادئاً، لكن عميقاً في نتائجه وانعكاساته وتبعاته، فالمؤسسات التي كانت تعرف تاريخياً بدورها في منح القروض بدأت تتحول إلى منصات متعددة الأبعاد، فلم تعد مؤسسات الإقراض مجرد "مقرضين"، بل أصبحت تعمل على جبهات متعددة، من منح التمويل وإدارة الأصول والتعامل مع الأسواق المالية، وهذا النموذج الجديد بدأ يجد طريقه إلى السوق السعودية والمنطقة بشكل عام من خلال عدة نماذج، أحدها سوق الائتمان الخاص، كبديل أو مكمل لمصادر التمويل التي تحصل عليها الجهات التمويلية، كالبنوك ومؤسسات التمويل وغيرهم من مؤسسات مالية متنوعة.

مثلاً، في البداية جاءت شركات التمويل الرقمية الأمريكية (مثل سوفاي ولند كلوب وسيركل للتمويل وغيرهم)، لتحدث ثورة كبيرة في القطاع المصرفي عبر تقديم قروض أسرع وبتكلفة أقل من الطرق التقليدية، ثم لحقت بهم بعض المؤسسات المالية الكبرى مثل (كابيتال ون وغولدمان ساكس وجي بي مورغان وغيرهم)، ثم بدأت هذه الجهات تواجه معوقات هيكلية في عدم جدوى الاعتماد الكلي على موارد الميزانية العمومية وحدها، فكان الحل عبر تبني نماذج تعمل على إصدار القروض وتوزيع مخاطرها لاحقاً على مستثمرين مؤسساتيين من خلال التوريق أو البيع أو إدراجها في صناديق ائتمان خاصة. وهذا النموذج قائم في السعودية إلى حد معين من خلال بيع المحافظ التمويلية إلى الشركة السعودية لإعادة التمويل.

النموذج الجديد يأخذ هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك بحيث يتم ربط رأس المال بالمقترضين دون تحميل الميزانية العمومية مخاطر رأس المال هذا، بحيث لا تحتفظ شركات منصات الائتمان الجديدة بالقروض في دفاترها إلا لفترة قصيرة، ليتم بيعه بعد ذلك لصناديق التحوط أو توريقه في أدوات دين وبيعها على المستثمرين، أو إدراجه في صناديق خاصة، وبالمقابل تحقق هذه المنصات إيرادات من رسوم الإصدار وخدمات التحصيل والإدارة الاستثمارية، وعمليات الهيكلة، وما شابه.

وبحكم نقص هذه المهارات الرقمية الجديدة وما تحتويه من ابتكارات وإبداعات، بدأت كثير من البنوك التقليدية تبني النماذج الجديدة عبر بناء شراكات مع شركات التقنية المالية (فنتك) والتعاون مع مديري الأصول باستخدام أدوات توريق مبتكرة لتوسيع قدرتها. كي لا نضيع في تفاصيل هذه النماذج الجديدة والهياكل المالية المعقدة، دعونا ننظر إلى أحد أوجهه هذا التحول من خلال ما أعلنته شركة "ساب للاستثمار" الأسبوع الماضي عن إنشاء صندوق للائتمان الخاص لتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة، حيث الانتقال من الإقراض المباشر عبر البنك إلى توجيه رؤوس أموال المستثمرين إلى المقترضين من خلال صندوق استثماري منظم، فتبتعد عمليات الإقراض عن ميزانية البنك وضوابط البنك المركزي إلى العمل تحت مظلة هيئة السوق المالية، الجهة المشرفة على صناديق الائتمان الخاصة، وهذا التوجه ينسجم مع الاتجاهات العالمية، ولا شك أن بنوكاً ومؤسسات مالية سعودية أخرى ستحذو حذو ساب للاستثمار، لأن الطريقة مفيدة جداً لهذه البنوك والمؤسسات المالية.

من جهة أخرى، هذا التطور سيفتح الأبواب أمام شركات التقنية المالية المحلية لتبني النموذج ذاته، إذ يمكن لشركة أن تقدم تمويلاً للشركات الصغيرة والمتوسطة أن تبني منصة تبدأ بمنح القروض، ثم تجمّعها في صندوق خاص خاضع لتنظيم هيئة السوق المالية، وتقدمه كأداة استثمارية للمؤسسات والصناديق العائلية. ولكن لضمان نجاح هذا النموذج، فمن الضروري تحقيق مستوى عالٍ من الشفافية وحوكمة واضحة وحماية للمستثمرين، فيجب أن تحافظ المنصات على جودة عالية في إجراءات المنح وأن تتفادى تضارب المصالح بين الجهة المانحة ومدير الأصول وأن تقدم تقارير أداء مفصلة للجهات الرقابية والمستثمرين، وغير ذلك من ضوابط تنظيمية.

خلاصة القول إن هيئة السوق المالية فتحت المجال لصناديق الائتمان الخاص لتشارك في العمليات التمويلية التي كانت حكراً على البنوك ومؤسسات التمويل المرخصة، ولكن بالطبع دون العمل في سوق إقراض الأفراد، فالبنك المركزي يفرق بين المرخص لهم بالإقراض من الميزانية والمرخص لهم بتقديم خدمات التمويل عبر منصات تقنية، ولا يشرف البنك المركزي على صناديق الائتمان الخاص. إضافة إلى ذلك هناك شهية متزايدة من المستثمرين المحليين المؤسسيين، تجاه أدوات الدين غير المدرجة، فمستقبل الإقراض لا يتمثل فقط في التحول الرقمي بل في بناء بنية مالية ذكية تعتمد على نموذج المنصات القابل للتوسع، والمدعوم من المستثمرين وليس من ودائع العملاء، وكما بدأ يتضح فقد بدأ التحول بالفعل في السوق السعودية.


مختص بالأسواق المالية والاقتصاد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي