غازي القصيبي .. الفرصة والقدرة والنجاح
لا شك أن نجاحات الدكتور غازي القصيبي تعزى لقدراته القيادية المميزة، والفرصة الكبيرة والدعم اللامحدود والمساندة الكاملة من القيادة السياسية، حتى وإن بدا أقل عطاء حين توليه وزارة العمل فهذا بسبب طبيعة الوزارة التنظيمية مقارنة بالوزارات السابقة التي تعتمد على تقديم الخدمات. ومع هذا يجب الاعتراف بأن إنجازه في المجال العام يتعدى موقعه الرسمي ليسهم كمفكر ومثقف وطني في تشكيل الواقع الاجتماعي ويندفع نحو التطوير والتنوير. لم يتوقف ولو لبرهة عن التفكير العميق والعمل الجاد من أجل الوطن، فمرة محركا لمياه المجتمع الراكدة متحديا نمط التفكير العام، ومرات أطروحات إبداعية ممزوجة بكثير من الشجاعة والإقدام ومن ثم مشاريع وقرارات وطنية كبيرة بحجم ما يحمله قلبه وعقله من حب وإخلاص وتفان لهذا الوطن. لم يرغب التبجيل المصطنع حيث يصفق الجمهور دون وعي أو البحث عن الإطراء بكلمات مزيفة لا تحمل صدق المعاني ولا مشاعر حقيقية، ولذا لم يرض الاستكانة والركود والجمود والتوقف عند محطة واحدة، وإنما البحث الدائم عن الأفضل والتغيير الذي ينقل المجتمع إلى أوضاع أفضل بكل ما أوتي من قوة وتأثير وفكر وثقافة, وهذا يعني أنه راح يطرق جميع الأبواب ويسلك جميع السبل ويحارب على جميع الجبهات. إنه صاحب فكر ورؤية ورسالة لم تحاصره الإجراءات البيروقراطية ولم يقيده المركز الوظيفي ولا المناصب العليا، على الرغم مما تجلبه من مكانة وبريق وما تحيطه من هالة تثقل صاحبها بسلوكيات وتصرفات حتى لا يكاد يتحرك!
الدكتور القصيبي طليق حر بمساحة فكره وثقافته ولأنه يرى أن سلطة المركز الوظيفي لخدمة الناس وعمل المعروف وليس التعالي والسيطرة ووضع الحواجز تكبرا وغطرسة واستجلابا لاحترام مزيف واستدعاء للتزلف والمجاملة. لم يهدأ ولو للحظة تفكيرا وعملا لأنه ينذر نفسه للعمل العام وتحقيق رسالته في التنمية الوطنية. إنه قيادي بنظرة مستقبلية ولكن موصولة بالواقع، معاصرة ولكن في إطار القيم الاجتماعية، نموذجية لكن قابلة للتطبيق. تفكيره شمولي ولكن يعرف أدق التفاصيل يربط بين المتغيرات المتناثرة المبعثرة فيحيلها صورة ذات معنى واضحة المعالم يفهمها الجميع، ومن ثم ينظر إلى الظواهر المعقدة والمستجدات المتداخلة والمتشابكة فيعمل على تحليلها وتفكيكها إلى جزيئاتها الدقيقة ليسهل فهمها ويعرف أسبابها ليكون التعامل معها على دراية وبينة وفي إطار موضوعي ونهج عقلاني، وأهم من ذلك قدرة فائقة على التعبير ووصف التجربة الإنسانية وإيصال الفكرة والإقناع بأسلوب سلس قريب للنفس واضح المعاني عميق الفكرة. جوهر نجاحه في التركيز على الهدف والالتزام بتحقيقه مهما كلف الأمر ليس عنادا وإنما قناعة وبعد نظر وطول نفس وعزيمة وإصرار فيما ينفع الناس.
هذا التفكير والهم الوطني الذي يحمله الدكتور القصيبي ما كان لولا نفسيته الصحيحة وتطبيقه مبدأ «حب لأخيك ما تحبه لنفسك». هذه الموضوعية في طرح الأفكار وصنع القرار ليست بالأمر السهل خاصة في عالم غارق بتحقيق المنافع الخاصة مليء بالصراعات والمشاحة والمشاحنات على الموارد. مكمن تميز القصيبي والتحدي الكبير هو في تطبيق مبدأ «المنفعة العامة مقدمة على المنفعة الخاصة» (في حال التعارض بطبيعة الحال) في اقتصاد ريعي اعتاد فيه الناس على «أخذ الكثير بأقل القليل» وغياب الربط بين المدخلات والمخرجات وانعدام العلاقة بين الجهد والنتيجة، في ثقافة يعد فيها الالتفاف على النظام شطارة وأخذ ما ليس لك ذكاء وفطنة. ومع غياب النظرة المشتركة والرؤية الجماعية وسيطرة الأنانية الشخصية والسعي للمصلحة الفردية يكون من الصعب جدا على الكثيرين تفهم القرارات العامة الموضوعية والمحايدة والعادلة التي تزيد من المنافع العامة وتحد من الاستغلال والاستنفاع الفردي.
لم يغب عن بال الدكتور القصيبي «الوزير والتحديات الإدارية» في أن المركز الوظيفي إنما هو جسر تعبر فوقه الأفكار وتتحقق الرؤى وتنجز المهام حتى وإن كان ذلك يعني مواجهة صارمة شرسة من الضغوط والانتقادات الحادة والسير في الاتجاه المعاكس دون مداهنة أو مهادنة. إنها طبيعته كمحارب متمرس في مواجهة «التنمية وجها لوجه» في البحث عن الجديد النافع والإبداع بأفكار جريئة غير مسبوقة دون الالتفات لمن يحارب النجاح أو يبحث عن المنافع الآنية الضيقة بأنانية بشعة. كان بامكان القصيبي أن يكون رجل أعمال من الطراز الذي تشرع له الأبواب وأن يقفز نحو الثراء قفزا وأن يصل إلى ما يريد من أقصر الطرق وأن يعيش لنفسه معززا مكرما مرفها لا يدخل في مهاترات العموم ولا يتعرض لانتقاداتهم اللاذعة ولا عواطفهم المتذبذبة التي تسيرها المنافع الشخصية. إلا أنه أبى إلا أن يكون في «عين العاصفة» يدور حيثما دار الوطن ولينتقل من تطوير السكة الحديدية إلى الارتقاء بالصناعة والكهرباء ومن ثم إصلاح الخدمات الصحية وليمر مرور الكرام بوزارة المياه ليحط رحاله عند أصعب مرحلة «من حياته في الإدارة» وزارة العمل، حيث استلزم هذه المرة معادلة جديدة وتبادل الأدوار من دور المانح إلى دور الطالب والعمل في مجال ينتابه ضبابية لا يرى منفعته العامة إلا القليلون ممن يفهمون أننا جميعا في السفينة ذاتها وأن الأمر يتحتم التعاون والتكاتف وعملا جماعيا يفضي إلى منفعة عامة تماما مثل الهواء النقي الذي نتنفسه. هذه المنفعة الجماعية من الصعب إدراكها فهي ليست كالمنفعة الخاصة عندما يكون الربط بين التكلفة والمنفعة واضحا. هكذا إذا كان قدر القصيبي أن يكون في مهب الريح الاجتماعي فمرة تدفع به إلى الأعلى ليحلق في سماء المجتمع المتلهف للإنجاز دون استعداد لتحمل التكلفة الاجتماعية ليهتف الناس باسمه ومرة تهوي فيه إلى مكان سحيق تلوكه الألسن لأولئك الطفيليين الذين تسيرهم أهواؤهم فإن أعطوا رضوا وإن منعوا سخطوا دون مبدأ وقيم تحكم تصرفاتهم.
لم ألتق الدكتور القصيبي ولم تتح لي فرصة الحديث معه، ولكن شدني فكره الإداري وأسلوبه القيادي كممارس أضاف إلى التجربة الإدارية وأثرى الجسم المعرفي في مجال الإدارة العامة. قد نختلف مع أطروحاته وقد نتفق ولكن يبقى القصيبي جبلا وطنيا أشم عمل بفكر مستنير وقلب كبير ورؤية واضحة. أدعو العلي القدير أن يمن عليه بالشفاء العاجل وأن يعود معافى فنحن ننتظر عطاءه المتجدد.