مراجعة منهجية الابتعاث
أصدر خادم الحرمين الشريفين أخيراً قرارا بتجديد برنامج الابتعاث الخارجي لمدة خمسة أعوام قادمة، ويأتي هذا القرار ضمن رؤيته - حفظه الله - للعلم والتعليم وتبنيه نهضة علمية تعليمية تمثلت في عدة جوانب كمشروع الملك عبد الله لتطوير التعليم، وإنشاء جامعة عالمية المستوى والمواصفات هي جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، إلى جانب افتتاح جامعات جديدة تغطي تقريبا مساحة الوطن.
وفي عهده - وفقه الله - شهد الابتعاث الخارجي توسعا غير مسبوق، وهذه خطوة إيجابية وجيدة، ولكن هذه الإيجابية لن تكتمل وتؤتي ثمارا يانعة إلا من خلال خطة منهجية للابتعاث تقوم على ثلاثة شروط أساسية، الأول هو الكيف وليس الكم، بمعنى أن يتم اختيار من يبتعث والتخصص والدولة وجامعاتها بعناية ودقة، وذلك حتى تكون المحصلة إيجابية، لا أن يفتح باب الابتعاث على مصراعيه دون التفريق بين صالح وغير صالح للدراسة في الخارج علميا على الأقل، وأن توضع معايير لقدرات وموهبة وتمكن المبتعث المفترض، وأن يتم تحديد التخصصات التي نحتاج إليها بدقة ليتم الابتعاث عليها وبما يدعم مسيرتنا التنموية والنهضوية، ثم من المهم أن يوجه من يبتعث لجامعات وكليات متميزة وعالية المستوى وتتوافر فيها معايير الجودة العلمية.
أما ثاني الشروط فهو التعلم من تجارب برامج الابتعاث السابقة، ونتائجها السلبية الأكثر من الإيجابية، التي وبكل صراحة وأسف أنتجت لنا «كم» أكثر من «الكيف»، وللإنصاف هناك من حقق شروط الكيف وهم مثلا هذه النجوم الساطعة اللامعة في الطب، ولكن الغالبية كانوا مجرد كم لم يقدم ما يوازي ما حصله من علم من جامعات الخارج آنذاك، ولدينا شاهد حي وهو جامعاتنا التي تقوم عليها وتديرها كوادر هي نتاج برامج الابتعاث السابقة، برامج «الكم»، والتي يؤكد حالها تذيلها لقائمة التقييم العالمي للجامعات في العالم، فهي لم تستطع الارتقاء بها وتطويرها للمستويات المأمولة، في الوقت الذي كان فيه مفترضا أن هذه الكوادر التي حصلت على مؤهلاتها من جامعات الخارج قادرة على التطوير والإبداع بما يجعل جامعاتنا ومستواها التعليمي يضاهى أفضل جامعات العالم.
وهذا ينسحب أيضا على غيرها من مؤسسات وإدارات، أليس من يتولي مسؤولية معظم مؤسساتنا وإداراتنا المختلفة اليوم هم خريجو برامج الابتعاث السابقة «الكم»..؟ إذن لماذا لم نلمس رقيا وتطويرا في الأداء وقدرة على تجاوز المشكلات وإبداع الحلول..؟
وثالث الشروط أن توجد خطط توظيف معدة ومرتبة مسبقا لإشغال المواقع في كل المرافق التشغيلية بكل خريج حسب تخصصه، وأن يصحب ذلك سعودة تدريجية بمن تأهل في الخارج بعد فشل تجربة السعودة بجهد محلي ثبت أنها الوجه الآخر الأكثر رداءة للكم، وهذا ما أشار إليه الأستاذ نجيب الزامل في أحد مقالاته الأخيرة (10/ 2/ 1431 هـ) لدراسة أعدها شباب سعودي لتوظيف المبتعثين، بما جعل الأستاذ نجيب يطلق العنان لأحلامه ولا أقول توهماته، بأن تشتهر هذه الدراسة يوما بنظرية وخطة «الشهري الذوادي» للتوظيف، ومن «بقك» لباب السماء يا عم نجيب.
المحصلة من ذلك كله، هو أنه كي يمكن استثمار برامج الابتعاث بطريقة إيجابية، وأن نحقق معيار «الكيف» وليس «الكم»، لا بد أن نضمن أن يعود إلينا كل مبتعث بقدرة علمية توظف فيما بعد تخرجه عمليا في إثراء مسيرتنا التنموية، وليصبح عنصرا فعالا بما اكتسبه من تعلم مرموق في عملية التطوير والمساهمة الفعلية والفعالة كل في مجال تخصصه إبداعا وإنتاجا علميا، وهذا لن يكون إلا من خلال وضع منهجية علمية للابتعاث تقوم على النوعية وليس الكمية، حتى لا يعود مبتعثونا بشهادات ورقية لا تصلح إلا للتوظف في عمل مكتبي روتيني، وحاملين أنماط حياة مغلوطة وملوثة بمفاهيم خاطئة فقط لا غير.