.. ما هي البيونية؟

في السبعينيات ظهر مسلسلٌ تابعه كل من عنده جهاز تلفازٍ على الكرةِ الأرضية، وكان المسلسلَ الأكثرَ انتشاراً ونجاحاً على الإطلاق حينها، كانت شخصية بطل المسلسل «ستيف أوستن»، ومن شهرة الشخصية غطّتْ بظلـِّها الإسمَ الحقيقيَّ للممثل الأمريكي «لي ماجورز» حتى الآن، أي بعد أكثر من ثلاثة عقود..
بطلُ المسلسل تعرّض لحادثٍ عنيف تهشَّمَ فيه كاملُ جسَدِهِ، فأُعيدَ ترميمه من جديد بأعضاءٍ صناعيةٍ مرتبطة بخلايا الدماغ الحي، بذراعين قويّتين يحمل فيهما أطناناً، وساقين يسابق بهما الريح.. وبعينيْن ثاقبتيْن تريان خلال أميال، وبسمعٍ يخترق الجدران.. وصار إنساناً جبّارا صناعيا. وكان المسلسلُ بعنوان «رجل الستة ملايين دولار».. ويُعَدُّ في ذاك الوقت من إبداعاتِ الخيال العلمي المبني على وقائع وبحوثٍ واحتمالاتٍ علمية، وكان رائدُ هذه الموجة من التفكير بلا منازع الراحل حديثا «إسحق عظيموف»، الكاتب الروائي العلمي، والعالم الكيميائي المرموق.. ومن هناك، عملياً، بدأ عصرُ «البيونية» بترجمتي الشخصية للمصطلح..
والبيونية هي المقابلُ المعرَّبُ من المصطلح الأجنبي Bionics، وكلمة Bi تعني الحياة وOnics تعني بحوث الأنظمة الميكانيكية. أي أنها شراكة بين الآلة والنظام الفسيولوجي الحيّ. ونكتب هذا الموضوعَ لأهميته القصوى لأنه الآن أصبح علما إمكانيا، وسينقل الإنسانَ مرحلة تطويرية كبرى في التقليل أو التخلص الكامل من عجزه الأدائي عند قصور أو ضمور أو بتر أو جرح عضوٍ من أعضائِهِ.. اعتمادا على الدماغ الذي يرتبط بحزمة الأعصاب التي تنقل أوامرَ الشعور والحركة والاستجابة، وعلى الحركة المتولـِّدةِ من نظامٍ ميكانيكي مصنوع، للتعويض عن العضو الطبيعي المفقود.. وأهميته دائمة لأن الناسَ كل يوم يتعرضون لأنواع الحوادث والأمراض والجراحاتِ والمعارك والإصابات التي يتعطل فيها عضوٌ أو أكثر فيصير الإنسانُ عاجزاً بعد قدرة، وناقصاً بعد اكتمال، واعتماديا بعد استقلال.. إنها واحدةٌ من أفظع التجارب المؤلمة التي يتعرض لها أي بشري.. ونخص الأهمية هنا لتوقعنا لمزيدٍ من هذه الحالاتِ بعد كارثة جدة، والمعارك على الحدود، واستمرار نهم وحش الطرق الذي ينهش اللحمَ الحي للآلافِ من شبابنا..
حتى الآن، ولأمرٍ غريب، لم يتطور كثيرا علم البيونية، وما زالت الأطرافُ الصناعية الجامدة، أو المفصلية، أو الميكانيكية المحدودة هي التقنية والبديل الذي لم يطرأ عليها تغييرٌ ثوريٌ من عقودٍ طويلة، ربما من بعد الحربِ العالميةِ الثانية أوبتطورٍ بسيط، خصوصا فيما يتعلق بدمج العقل والآلة.. صحيحٌ أن بطلَ المسلسل التلفزيوني من زمن بعيد تم إمداده بقوةٍ فوق الطبيعية، وهذا مستحيل ( حالياً على الأقل) ولكنا نعني الواقع الممكن لدمج الوظيفة الدماغية مع الحركة الميكانيكية الصناعية ليشكلا عضواً بيونيا مكتمل الوظائف في الشعور والحركة، أو بأقرب صوَرٍ للاكتمال.
هذه التجارب الآن على قدم وساق، وهناك نتائجُ مذهلة في هذا المضمار منها ما عرضته المجلة الرصينة الأمريكية العالمية «الناشونال جيوغرافيك» عن تجارب متقدمةٍ جدا (بل مدهشة وكأنها من عالم الخيال العلمي) يقوم بها الفيزيائيُ والمهندسُ الطبي الإحيائي «تيد كولكين»، وعن الفتاة «أماندا كيتس» التي نتيجة لحادث سير خاطف تأثرت بجراح عميقة تطلبت بتر ذراعها من مفصل الكتف.. واجتمع الاثنانُ؛ العالمُ المتحفز الطموح، والفتاة التي قبلت بتجارب أن يتصل دماغُها بواسطة شبكةٍ هائلةٍ وضفائر صناعية بالغة الحساسية النقلية وخريطة شعورية عميقة التعقيد، مع موصلاتها العصبية الطبيعية المتصلة بالدماغ، حتى اكتملت لها يدٌ بيونية تقارب اليد البشرية إحساسا وحركة ومرونة..
ويعتمد هذا العالمُ المهندس الحيوي على ظاهرة يعرفها، حماكم الله، من فقد عضوا من أعضائه، وهي الإحساس الأكيد بأنّ العضوَ بعد البترِ موجود، وعندما استُؤصلت ساقُ مريض بالسكري كان تحت الديلزة الدموية أعرفه، قال لي: «أشعر حتى بأطراف أصابع قدمي..»، وهذا ليس شعورا توهميا بل حقيقي، لأن أطراف الأعصاب من المكان المنزوع منه العضو ما زالت تطلق إشاراتٍ كإشارات التلغراف، من الدماغ.. وعندما يقررُ الدماغ أن شيئا موجودا أو محسوسا فهي الحقيقة الكاملة.. بأصل الشعور.
ونجدها مناسبة أن نطالب بدراسات ومتابعات ومعاهد طبية إحيائية فيزيائية لمواكبة هذا العلم، بل وأن تخترع له وتضيف إليه.. ولمَ لا؟ نرجو من الكليات الطبية والهندسية، ومن السلطات الصحية أن تتابع هذا التطور في علم الأطراف الصناعية، وترسل أطباءَ ومهندسين لمؤتمراته وورش أعماله، وأن تعتمد تخصصا مستقلا له، الأملُ الذي سيعيد الناس الذي فقدوا أعضاءهم إلى سوائهم الأول.
من عامٍ مضى كان أول من استفاد من يدٍ بيونية صناعية في بريطانيا هو «راي إدواردز»، فعندما عطـَفَ يده لأول مرة بعد بتر يده الحقيقية.. بكى وقال: «لقد أصبحت أنا من جديد!».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي