عقود الدولة وقانون الميزانية
أقر مجلس الوزراء برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، في الجلسة التي انعقدت يوم الإثنين 4/1/1431هـ الموافق 21/12/2009 الميزانية العامة للدولة للعام المالي الجديد 1431هـ (2010).
وقد قدرت إيرادات الدولة للسنة المالية 1431/1432 بمبلغ (470) مليار ريال وحددت مصروفاتها بمبلغ (540) مليار ريال. وصرح وزير المالية بأن وزارة المالية قدرت العجز في الميزانية بـ 70 ألف مليون ريال، مشيرا إلى أنه إذا تحسنت أسعار النفط فسيكون العجز أقل من هذا المبلغ، وذكر أن الميزانية شملت مشاريع كبيرة جداً مع أن العام المالي الماضي تميز بحجم كبير من المشاريع بلغت تكاليفه (225) ألف مليون ريال إلا أن ميزانية هذا العام تجاوزت هذا المبلغ ووصلت المشاريع التي اعتمدت تكاليفها إلى (260) ألف مليون ريال بزيادة نحو 16 في المائة عن العام الماضي.
ويتكون قانون الميزانية العامة للدولة عادة من ثلاثة مراسيم ملكية: يقدر المرسوم الأول إيرادات الدولة ويحدد مصروفاتها خلال السنة المالية، كما يضع القواعد العامة التي تحكم استيفاء الإيرادات وصرف الأموال وإجراء المناقلات بين اعتمادات فصول وفروع الميزانية وغير ذلك من الأمور ذات الصلة بالاتفاق العام. ويقدر المرسوم الملكي الثاني إيرادات ومصروفات الأمانات والبلديات ويضع القواعد العامة لنفقاتها.
أما المرسوم الملكي الثالث فيقدر إيرادات ومصروفات المؤسسات والهيئات العامة الملحقة بالميزانية العامة للدولة مثل المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة والمؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية والمؤسسة العامة للموانئ والمؤسسة العامة لصوامع الغلال ومطاحن الدقيق والجامعات وغيرها من المؤسسات والهيئات العامة.
وتفوض هذه المراسيم وزير المالية بإصدار التعليمات اللازمة لتنفيذ أحكام الميزانية العامة للدولة والميزانيات الملحقة بها في حدود القواعد المنصوص عليها في هذه المراسيم. وتعتبر هذه التعليمات جزءاً من قانون الميزانية العامة للدولة.
وجدير بالذكر هنا أن القواعد القانونية العامة التي تتضمنها مراسيم الميزانية تكاد تتماثل في كل سنة مالية. ولعل أهم هذه القواعد قاعدة الإذن أو الاعتماد المالي وبموجبها لا تستطيع أي جهة حكومية أن تلتزم مالياً بمبالغ معينة تجاه الغير إلا إذا وجد الاعتماد المالي لمواجهة هذا الالتزام، ونظراً لارتباط عقود الدولة بهذه القاعدة فإنني أود في هذا المقال أن أسلط بعض الضوء على أحكام عقود الدولة في قانون الميزانية العامة للدولة، حيث جاء نص المادة الثامنة من المرسوم الملكي الأول رقم م/1 وتاريخ 4/1/1430هـ كما يلي:
(لا يجوز استعمال الاعتماد في غير ما خصص له أو إصدار أمر بالالتزام أو بالصرف بما يتجاوز الاعتماد أو الالتزام بأي مصروف ليس له اعتماد في الميزانية).
كما نصت المادة التاسعة من هذا المرسوم على أنه (لا يجوز إصدار قرار أو إبرام عقد من شأن أي منهما أن يرتب التزاماً على سنة مالية مقبلة باستثناء ما يلي:
أ - العقود ذات التنفيذ المستمر أو التنفيذ الدوري كعقود الإيجار والعمل والخدمات وتوريد الإعاشة والأدوية والمستلزمات الطبية وعقود الخدمات الاستشارية التي يتكرر رصد اعتمادات سنوية لها.
ب - عقود التوريد المعتمدة تكاليفها في الباب الثاني التي تتطلب التعاقد لأكثر من سنة على أن تكون قيمة العقد السنوية في حدود اعتمادات الميزانية ويتخذ من اعتماد السنة المالية الأولى مقياساً لتحديد قيمة العقد وألا يرتبط على المبلغ المعتمد لأغراض أخرى.
ت - عقود برامج التشغيل والصيانة وتنفيذ المشاريع شريطة أن يتم الالتزام في حدود التكاليف المعتمدة لكل برنامج أو مشروع.
وجدير بالذكر في هذا الصدد أن الفقرة (أ) من المادة (28) من نظام المنافسات والمشتريات الحكومية قررت أنه (لا تتجاوز مدة تنفيذ عقود الخدمات ذات التنفيذ المستمر، كالصيانة والنظافة والتشغيل والإعاشة، خمس سنوات. ويجوز زيادة هذه المدة للعقود التي تتطلب ذلك بعد موافقة وزير المالية).
كما أن الفقرة (ب) من المادة المذكورة قررت أنه (يجب في عقود مشاريع الأشغال العامة أن تتناسب فيها المدة المحددة لتنفيذ المشروع مع كمية الأعمال وطبيعتها، ومع الاعتمادات السنوية المخصصة للصرف على المشروع).
وإعمالاً للقواعد العامة في قانون الميزانية نصت المادة السابعة من اللائحة التنفيذية لنظام المنافسات والمشتريات الحكومية على أنه (على الجهة الحكومية التأكد من توافر الاعتمادات المالية اللازمة قبل تأمين مشترياتها أو طرحها لما تحتاج إليه من أعمال في المنافسة العامة).
ولمعالجة حالات الالتزام المالي بما يتجاوز الاعتماد المقرر، فقد قررت المادة العاشرة من المرسوم الملكي المشار إليه آنفاً، أنه إذا ظهر خلال السنة المالية 1431/1432هـ أن هناك مبالغ تم الالتزام بها خلال السنوات الماضية بما يتجاوز الاعتماد المقرر تعين عرض الموضوع على رئيس مجلس الوزراء إذا كان التجاوز ناتجاً عن تصرف غير مبرر وإلا جاز لوزير المالية أو من ينيبه الإذن بصرف تلك المبالغ من اعتمادات السنة المالية 1431/1432هـ.
ويثور التساؤل لو أن جهة حكومية أبرمت عقداً ترتب عليه التزامها بدفع مبالغ ليس لها اعتماد مالي في الميزانية أو بأكثر مما هو مقرر في الاعتماد المالي، هل يعتبر العقد في هذه الحالة باطلاً أم صحيحاً؟
يكاد فقهاء القانون الإداري المقارن يجمعون على أن العقد لا يعتبر في هذه الحالة باطلاً لأن عدم وجود الاعتماد المالي أو تجاوز مقداره ليس له تأثير في صحة العقد من الناحية القانونية وتبعاً لذلك يعتبر العقد ملزماً للجهة الحكومية. وهذا ما ذهب إليه القضاء الإداري في فرنسا ومصر، ونسوق على ذلك مثلاً حكم المحكمة الإدارية العليا المصرية الصادر في 11/2/1956، حيث جاء فيه (أن الثابت في فقه القانون الإداري أن العقد الذي تبرمه الإدارة مع الغير - كعقد الأشغال العامة أو التوريد مثلاً - ينعقد صحيحاً وينتج آثاره ولو لم يكن البرلمان قد اعتمد المبلغ اللازم أو جاوزت الإدارة حدود الاعتماد أو خالفت الغرض المقصود منه أو فات الوقت المحدد لاستخدامه، فمثل هذه المخالفات لو وجدت من جانب الإدارة، لا تمس صحة العقد ولا نفاذه، وإنما قد تستوجب المسؤولية السياسية، وعلة ذلك ظاهرة وهي أن العقود التي تبرمها الإدارة مع الغير تنشئ روابط فردية ذاتية، وليست تنظيمية عامة، فيجب عندئذ حماية هذا الفرد، وعدم زعزعة الثقة بالإدارة، فليس في مقدور الفرد الذي يتعاقد مع الإدارة أن يعلم مسبقاً بوجود الاعتماد المالي أو عدم وجوده، أو أنه قد صدر أو لم يصدر، وما إذا كان يسمح بإبرام العقد أو لا يسمح وما إذا كان العقد في حدود الغرض الذي خصص الاعتماد المالي لتحقيقه أم لا، فكل تلك المسائل يتعذر على الفرد العادي، بل وحتى الفرد الحريص، التعرف عليها. ولو جعلنا صحة العقد مرهونة بذلك لما جازف أحد بالتعاقد مع الإدارة ولتعطل سير المرافق العامة).
من ناحية أخرى، فإن من المستقر عليه في فقه القانون الإداري أنه وإن كان العقد يعتبر صحيحاً وملزماً في حالة عدم وجود الاعتماد المالي أو تجاوز مقداره إلا أن المتعاقد مع الجهة الحكومية لا يستطيع إجبارها على الوفاء بالتزاماتها التعاقدية حتى يتم توفير الاعتماد المالي اللازم أي أن على المتعاقد إن أراد الاستمرار في العقد أن يتريث ويمهل الجهة الحكومية حتى تستطيع تنفيذ التزاماتها بتدبير الاعتماد المالي، أو أن يطلب فسخ العقد مع تعويض مناسب. وتجدر الإشارة في الختام إلى أن صحة العقد في حالة مخالفة الاعتماد المالي لا تعفي المخطئ من المساءلة والجزاء، وقد أكدت ذلك المادة (75) من نظام المنافسات والمشتريات بأن (كل مخالفة لأي حكم من أحكام هذا النظام تعرض الموظف المسؤول عنها للمساءلة التأديبية، وفقاً لأحكام نظام تأديب الموظفين وغيره من الأحكام الجزائية الأخرى المطبقة على العاملين في القطاعات الحكومية والمؤسسات العامة، مع احتفاظ الجهة بالحق في إقامة الدعوى الجنائية أو المدنية على المخالف عند الاقتضاء).