نظرة على مستقبل الاقتصاد البحريني
قطعت البحرين شوطاً كبيراً في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية, وتمكنت من تسريع مجالات النمو والتطور فيها خلال فترة قصيرة لم تتجاوز بضعة عقود, ويعد تدشين الرؤية الاقتصادية لعام 2030 بمثابة حجر الأساس للاقتصاد البحريني والمتضمنة على تقييم أفضل المعايير الدولية للتنمية واعتماد المعايير الأكثر ملاءمة للمجتمع البحريني عبر التنسيق بين السلطة التشريعية والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني, ما نحتاج إليه اليوم هو ترجمة الرؤية الاقتصادية إلى استراتيجية وطنية متناسقة يتم الالتزام بها من قبل مختلف الوزارات والهيئات الحكومية التي أوضحت دوافع الإصلاح والتطوير التي يحتاج إليها الاقتصاد البحريني, وذلك وفقاً للمبادئ الأساسية المتمثلة في الاستدامة والتنافسية والعدالة من أجل تحقيق الازدهار في القطاع الخاص على وجه التحديد وإعطائه دورا أكبر في العملية التنموية, الدول التي أحرزت تقدما اقتصاديا يذكر كماليزيا مثلا لم تتقدم اعتباطا أو على أساس ضربة حظ لكن ضمن أسس وخطط اقتصادية محكومة بمعايير محددة, وبعد أن برهنت البحرين على وجود تطور كبير في المؤشرات الحيوية في تقرير التنافسية الدولي على الرغم من نزولها من المرتبة 37 إلى المرتبة 38 على مستوى العالم, جعلت المرء يبدو متفائلا بحذر عن المستقبل الاقتصادي البحريني بعد أن ارتفعت مؤشرات أخرى مهمة كمؤشر صحة السياسات المالية والاقتصادية وثبات واستقرار الاقتصاد وسوق العمل والميزانية وقطاع الخدمات المالية الذي هو من أهم المؤشرات، وقد تطورت فيه بنحو خمس نقاط , كما ارتفعت خمس نقاط في المؤشر الإجمالي للثبات الاقتصادي وصحة توجهات السياسات الاقتصادية والمالية, إلى جانب مؤشر سوق العمل بنحو أربع نقاط, وفي ظل مطالبة سياسات التمويل الحكومي الالتزام بمبدأ الاستدامة من أجل المحافظة على نظام مستقر قائم على التطلعات المستقبلية، حيث إن أهم ما حوته الرؤية الاقتصادية هي العمل على الانتقال من اقتصاد قائم على الثروة النفطية إلى اقتصاد منتج قادر على المنافسة عالمياً يهدف إلى تحويل البحرين إلى مكان متميز لممارسة الأنشطة الاقتصادية للشركات المحلية والأجنبية وإلى مكان جذاب للصناعات والخدمات ذات القيمة المضافة العالية، وهي أمور لا تتحملها الحكومة البحرينية فقط, بل تحتاج إلى تضافر الجهود الجماعية من أفراد ومؤسسات, ويتولى فيها القطاع الخاص عجلة تنميته بشكل يوسع الطبقة الوسطى من المواطنين الذين عادة ما ينعمون بمستويات معيشية معقولة جراء زيادة معدلات الإنتاجية والوظائف ذات الأجور العالية ليجعل النهضة الاقتصادية تنعكس على المستوى المعيشي لجميع المواطنين آملا أن يستمتعوا بحياة كريمة وآمنة بما في ذلك إعطاء الجميع فرصاً متساوية للحصول على التعليم والرعاية الصحية وتقديم الدعم للمواطنين من خلال توفير التدريب المناسب على الوظائف وتوفير الضمان الاجتماعي, كما ركزت الرؤية الاقتصادية على النهوض بالأسرة البحرينية يحدوها الأمل بأن يتضاعف مدخولها المادي مع نهاية فترة الرؤية, النهضة الاقتصادية التي شهدتها البحرين أدت إلى النمو الاقتصادي وازدهار القطاع المالي وازدياد ثقة دوائر المال والأعمال الدولية في الاقتصاد البحريني، حيث ارتفع حجم تدفق الاستثمارات الأجنبية وما بقي هو البحث عن تحسين المستويات المعيشية للمواطنين, ومع تأسيس مجلس الترويج والتسويق الذي عمل على مساعدة الشركات العالمية والمحلية لتحقيق أهدافها التجارية والاقتصادية وتقديم المعلومات وخدمات الشركات الأجنبية التي ترغب في العمل في البحرين وشرح القوانين واللوائح لها ومساعدتها في اختيار نوعية الملكية التي تناسب نوع النشاط التجاري وتقديم ومتابعة الطلبات, كل ذلك جعل البحرين تعد واحدة من المراكز الاستثمارية المهمة وأكثر ما ميزها هو انفتاح الأسواق المالية والقوانين التجارية وبلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي 6 في المائة سنوياً على مدى السنوات الخمس الأخيرة, وإذا ما تم التعامل بكفاءة وفاعلية مع التحديات والفرص العديدة التي شهدها العالم فإن اقتصاد البحرين سيثبت نفسه ويتطور وينمو وفق إطار قانوني وتنظيمي يضمن حماية المستهلكين والمعاملة العادلة لأصحاب الأعمال بما فيهم المستثمرين الأجانب, وهذا يعني استئصال بؤر الفساد والسعي إلى التطبيق العادل للقوانين التي تشجع تشغيل البحرينيين, وفقا لأهداف العمل الوطنية لكل قطاع مع التشدد في إصدار أذونات عمل للعمالة الأجنبية, وسيتيح ذلك استخدام الموارد لتطوير رأس المال البشري والتعليم والتدريب, خصوصا في المجالات التطبيقية وتشجيع الابتكار والسعي إلى تطوير وتدريب القوى العاملة والكفاءات البحرينية والإشراف عليها حتى آخر مرحلة لتصبح ماهرة يعتمد عليها وذلك بالتنسيق والتعاون مع المهارات الأجنبية ضمن برامج واتفاقيات محددة بعيدة عن الارتجال، ربما كانت هذه المعطيات ليست جديدة فالسياسات التي اتبعتها البحرين منذ الاستقلال كان الهدف منها هو تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط, وأصبحت اليوم أقل دول الخليج اعتمادا على النفط كعنصر أساس في الاقتصاد بدليل اتجاهها لدعم الصناعات التحويلية غير النفطية، حيث قامت بإنشاء صناعات كبيرة الحجم كثيفة الاستخدام للطاقة وموجهة نحو التصدير أبرزها صناعة الألمنيوم والبتروكيماويات وتصليح السفن, إضافة إلى ذلك توسعت في دعم الصناعات الخفيفة مثل صناعة إنتاج إمدادات الغاز التكميلية والأسفلت والأبنية جاهزة الصنع والمرطبات وأجهزة تكييف الهواء والمنتجات الورقية والبلاستيك والملابس الجاهزة وغيرها, وكان للصناعات ذات القيمة المضافة العالية مثل صناعة المعلومات والخدمات أهمية أكبر مع السعي لإيجاد مصادر غير تقليدية للدخل عبر تشجيع اقتصادات السوق والحرية الاقتصادية والانفتاح وجذب الفرص الاستثمارية ورؤوس الأموال الأجنبية عن طريق مراجعة أنظمة الضرائب والحوافز وتقديم مزيد من التسهيلات الإجرائية, وإذا كانت البحرين قد احتلت مكانة بارزة على قائمة الاقتصادات العشر الأوائل الأكثر تحررا في العالم حسب تقرير معهد بحثي في أمريكا يدعى مؤسسة التراث, حيث تبنت الاقتصاد المفتوح المعتمد أساسا على النفط والغاز اللذين شكلا 29 في المائة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي و60 في المائة من الدخل الحكومي, أما على صعيد أداء القطاعات فقد ارتفع قطاع الاستثمار في البحرين بنسبة 1.39 في المائة، تلاه قطاع البنوك بنسبة 0.47 في المائة، بينما انخفض قطاع الخدمات بنسبة 0.51 في المائة, ومع ازدياد المخاوف من الانخفاض التدريجي لهذه الأرقام بسبب احتياطيات النفط المحدودة والتي تقدر بـ 148 مليونا, توجب البحث عن قاعدة اقتصادية متنوعة يتعايش فيها تصنيع وتكرير النفط مع قطاع الخدمات والصناعة المصرفية المتطورة التي عرفت بها البحرين منذ أمد بعيد، حيث مثل القطاع المصرفي 22 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي, وبعد أن توافرت البنوك التجارية والبورصة إلى جانب السوق المالي الدولي الإسلامي الذي أنشئ أخيرا, وأقفل مؤشر البحرين في نهاية آب (أغسطس) الماضي عند مستوى 1517 نقطة مسجلاً ارتفاعاً نسبته 0.9 في المائة مقارنة بالشهر الذي قبله، أما القيمة السوقية للسوق فقد ارتفعت بنسبة 0.9 في المائة لتصل إلى 6.2 مليار دينار, وارتفعت أسعار 12 شركة في حين تراجعت أسعار 12 شركة أخرى, واختلفت طبيعة الاستثمار في البحرين فهناك أشياء كثيرة تستطيع أن تستثمر بها أموالك، ولكن الجزء الأهم هو العقار, فبعد السماح للخليجيين باستملاك الأراضي جعل العقار في البحرين يصل إلى نسبة 300 في المائة في غضون سنتين في بعض المناطق وإن كانت أسعار الأراضي في البحرين مقارنة بغيرها من دول الخليج ما زالت تعد تنافسية, فقد عززت الاستثمارات الأجنبية عبر سن القوانين التي تسمح بالملكية الكاملة للأجانب وللشركات وممثليها وفروعها دون الحاجة إلى كفيل محلي عدا استثمارات تجارة التجزئة, حيث عانت دول كثيرة مشكلة الغلاء وارتفاع الأسعار, خصوصا في هذه المرحلة المتأزمة عالميا, وكان أحد أسباب هذا الغلاء هو ندرة الناتج الزراعي الذي بات ينقرض تدريجياً مع اتجاه المجتمعات نحو المدنية مما تسبب في ارتفاع حاد لأسعار المواد الغذائية, وحيث إن هذه هي الحال فأفضل الاستثمارات التي يستوجب التركيز عليها الآن هي الاستثمارات الزراعية أو الفلاحية, لأنها ستسهم في تخفيف العجز الإنتاجي, وبسبب هجرة الشباب والأيدي العاملة من تلك الأراضي نحو المدن والحياة المرفهة, فإننا اليوم ندعو المستثمرين العودة إلى أرضهم حتى يعطي الاستثمار الطابع الإيجابي الذي سينعكس ربحاً وأمناً غذائياً, وبعد الأخذ بكل هذه المعطيات نستطيع القول إن مستقبل البحرين الاقتصادي يحمل نظرة كبيرة إلى الأمام في ظل الرؤية الاقتصادية لعام 2030.