طرح الشركات المساهمة دون تعقيدات

طرح القانوني المخضرم إبراهيم الناصري فكرة أظنها جديرة بالبحث والتمحيص، ملخصها - كما فهمت - أن يتم طرح الشركات المساهمة دون تدخل لهيئة سوق المال وغيرها من الجهات الحكومية مع بقاء مسؤولية ملاك الشركة على كل محتويات نشرة الإصدار، مسؤولية تصل إلى التجريم الجنائي بعقوبات تصل إلى السجن. الفكرة قائمة على فاعلية السوق وأنه كفيل بتحديد القيمة الأقرب للعدالة. نسبة نجاحها لا أعتقد أنها ضعيفة. ولنتصور سيناريو ما سيحدث، أو أسوأ سيناريو يمكن حدوثه. شركة ما ترغب في الإدراج، وبطبيعة الحال يرغب ملاكها أن يرفعوا القيمة لأكثر مما تستحق، وبطبيعة الحال أيضا، يرغب المستثمرون في التقاطها بأقل من قيمتها العادلة لتعظيم مكاسب استثماراتهم. قوتان متناقضتان كفيلتان بإيجاد موازنة تقريبية لما يفترض أن يكون عليه الوضع دون بيروقراطية حكومية.
القصة ستبدو - بشكل مبسط جدا - كالتالي: هيئة سوق المال لا علاقة لها إلا بالتوثق من تصنيف المكتب المحاسبي والقانوني وأي مكتب آخر له علاقة بالمعلومات المدرجة في نشرة الإصدار، مع بقاء مسؤولية الملاك التضامنية عن صحة المعلومات المعلنة أو التي لم تعلن، قائمة حتى بعد الطرح ولفترة طويلة نسبيا وضرورة أن تبقى نسب تملكهم عالية (50 في المائة) كحد أدنى، ولفترة زمنية طويلة (خمس سنوات مثلا)؛ بعد ذلك، ملاك الشركة يعرفون أن السعر العادل لشركتهم هو، مثلا، 20 (عشرون ريال)، ولكنهم طامعون في 1000 ريال على سبيل المثال؛ والمستثمرون لا يعرفون على وجه الدقة قيمة السهم العادلة، ولكن وفقا لتصورهم مبني على نشرة الإصدار والأرقام المالية فيها، أن 15 ريال سعر جذاب أخذا في الاعتبار المفاجآت التي لا يعرفونها، ولكن كطبيعة استثمارية سيطلبونها عند 10 ريالات. تفتح الشاشة تجد الطلب عند 10 ريالات، والعرض 1000 ريال. الساعة 1 بعد الظهر أحد ملاك الشركة يريد تسييل جزء من أسهمه لشراء منزل، مثلا، فيتنازل، ولكنه لا يزال يحلم، فيعرض على 400 ؛ المستثمرون يشعرون بتمسك الملاك، مما يوحي بمتانة الشركة، حقيقة أو وهما، فيبادر أحدهم لرفع طلبه إلى 20 ريالا. لنتصور أن اليوم الأول سيقفل دون تنفيذ - كما يحدث في الصكوك الميتة. في الغد، أحد ملاك الأسهم يوعز لأحد المضاربين بالشراء إيهاما للسوق، فيشتري بمبلغ 400 ريال كمية معينة - فهو لا يستطيع المجازفة بشراء كميات كبيرة. قد يعطي هذا انطباعا مضللا بقيمة السهم العادلة ولكنه لا يكفي إذا كانت الكميات غير مقنعة، كما أن الرقم مبالغ فيه جدا ومغر جدا للملاك الآخرين الذين حتما سيتقاطرون بيعا لهذا السعر مما يضعف الطلب على ذلك السعر. ولكن لنتصور أسوأ سيناريو وأن هناك عملية خداع، فحتى هذه الفرضية لا يمكن أن تستمر دون انقطاع، ولو اكتشفت فالعقاب يجب أن يكون قاسيا. والغش يتصور حدوثه حتى مع الشركات القائمة اليوم في السوق وفي أي شركة تطرح مستقبلا، ولكن هذا يستحيل أن يستمر فترة طويلة وبكميات مرتفعة، ولو تم في شركة فليس متصورا أن ينسحب على الشركات الأخرى. علاوة على هذا، فملاك الشركات بحكم بقاء تملكهم لفترة طويلة نسبيا لا يضمنون بقاء الأسعار والأرباح كما هي، كما لا يضمنون بقاء سر ''الخداع'' لو افترضنا وجوده مكتوما لفترة طويلة، وبالتالي، فهناك حافز لأن يبيعوا بسعر يقترب من السعر العادل ومن صالحهم أن لا يخالط نشرة الإصدار معلومات مضللة. أما لو افترضنا أن العملية لم يخالطها تضليل، سيستمر العرض والطلب لحين الوصول إلى نقطة توازن وعندها سترتفع الكميات المنفذة بشكل حقيقي - ربما عند سعر 25 ريالا. قد تطول وقد تقصر لعبة الكر والفر ولكن في نهاية المطاف يصعب الاحتيال في الشركات وفي كل الأوقات. ولو أدخلنا شركات الوساطة المالية في المعادلة كعنصر ''مفلتر'' بين الشركات الراغبة في الإدراج وبين المكتتبين، لأضفنا عنصر أمان إضافي، فالعملية الأولى للبيع تتم لتلك المؤسسات الاحترافية التي حتما ستنبش الأرقام لتصل إلى تقدير معقول للسعر العادل الذي ستشتري هي به، مما يعني وجود جهات احترافية محايدة في المعادلة تضمن أن السعر لم يخالطه كثير من التلاعب -بالطبع قد يخالطه بعض من التلاعب كأي طرح آخر.
في نهاية المطاف، حتما ستكون الأسعار مقاربة بشكل أو بآخر للقيم العادلة وفقا لتقييم السوق - ولا يعني أن تكون فنيا متسقة مع المعايير العالمية، فسوقنا له حسابات مختلفة بعض الشيء. المهم في كل الموضوع أن نقتنع بأن ملاك الشركة لن يبيعوا إلا إن كان السعر مغريا، والمستثمرون لن يشتروا إلا إن كان السعر جذابا، وذلك كقاعدة عامة؛ أن يوجد احتيال فهو يحدث حتى في الوضع القائم. وكقاعدة عامة من صالح اقتصاد البلد أن يضم بشكل منظم الشركات المثمرة التي وأن غنم ملاكها مغنما مرتفعا في البداية ولكنه ثمن يستحقون بعضه إن لم يكن كله، بل بدونه سيبقون على شركاتهم في أحضانهم، وهو أمر لا أظنه في صالح اقتصاد البلد إجمالا. لنجعل دخول الشركات إلى حقل المؤسساتية أسهل ولنجعله محميا بسياج قانوني متين لنكفل اقتصادا أكثر متانة وتنوعا. الوضع القائم لا يضيف إلا إطالة الوقت، وهدرا للجهود، وتكلفة مالية مهدرة لا مبرر لها، ومدعاة لإثارة الإشاعات والاتهامات. هو وضع ستسأم منه الجهات الحكومية عاجلا أم آجلا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي