أسمع جعجعة ولا أرى طحنا

تقصد العرب بهذا المثل كثرة الكلام وقلة الأفعال. وبلغة العصر أسمع كلاما جميلا منمقا، وأرى خدمة رديئة. والمتصف بهذه الأوصاف مولع غالبا بالمظاهر وتزويق الكلام. والكلام المنمق سهل لأنه رخيص ويعجب النفس المحبة للمدح المولعة بالبهرجة. ولعل القراء الأفاضل يوافقونني على أن من آفات الإدارة لدينا أن كثيرا من المؤسسات تدار بكثرة الكلام مع قلة الأفعال.
هناك ثلاثة أنماط من السلوك في التفكير والكلام والفعل: رجل يفكر ويقول ويحاول جاهدا أن يترجم أفكاره وأقواله إلى أفعال. ورجل تغلب عليه أحلام اليقظة والتحدث بها: أي أنه كثير التفكير والكلام فيما فكر فيه، لكنه قليل الأفعال. ورجل ثالث أراح نفسه من التفكير فلا يتوقع منه كلام ولا فعل. وقد كتب الزميل فواز الأحمدي في عدد «الاقتصادية» 11 حزيران (يونيو) 2009 عن هذا الموضوع، ومن مقالته استقيت أفكارا لمقالتي هذه.
تدار المؤسسات والشركات عادة بقيادات من النوعين الأول والثاني. وحينما يسيطر النوع الأول على القيادة يرتفع الأداء. أما إذا تغلب النوعان الثاني والثالث على إدارتها العليا فعلى الأداء السلام. مثلا، كيف يكون حال مؤسسة تنتج سلعا أو خدمات ولكن كبار إدارييها يستهلكون معظم وقتهم في تزويق الكلام والولع بالمظاهر؟ هذا السلوك يتحول – من حيث يشعر المسؤول أو لا يشعر- إلى أداة لممارسات ضارة بأداء وإنتاجية الشركة أو المؤسسة.
إحدى الشركات تعاني مصاعب في رفع مبيعاتها، رغم حاجة الناس إلى خدماتها، كما أنها تعاني خسائر متزايدة بسبب ضعف قدرتها على تطوير وتحسين منتجاتها وتوفيرها للناس بصورة مرضية، كما لوحظ ارتفاع التكاليف التشغيلية الناتجة عن عدة عوامل كضعف استغلال كامل طاقتها الإنتاجية. تعاقد مجلس إدارة الشركة مع مكتب استشاري لدراسة الوضع. لاحظ الاستشاري كثرة الاجتماعات الدورية، ورأى أن قيادات الشركة يشاركون بفاعلية في تقديم الحلول والمقترحات لمعظم المشكلات التي تعانيها الشركة، ولكن لا أثر لذلك على أرض الواقع. فمشكلات الشركة ما زالت قائمة والنتائج غير المرضية مستمرة.
ماذا يفعل كل المسؤولين بعد أن تنفض الاجتماعات؟ لماذا لا تتم ترجمة الأفكار المطروحة إلى عمل؟ لقد بدا الأمر محبطا لمجلس الإدارة. أما رئيس الشركة فيتعرض لضغوط مجلس الإدارة لتحسين الوضع المالي للشركة.
تبين للاستشاري أن الشركة تعاني مشكلات إدارية جوهرية، وإحدى هذه المشكلات أن أغلبية المسؤولين فيها يمكن تصنيفهم أنهم من الفئة الثانية التي تفكر، ولكنها تستهلك معظم طاقتها في الحديث عما يجب فعله. كان واضحا أن الشركة لن تتقدم إذا بقيت تدار وفق الطريقة الإدارية نفسها. ولذا كان لزاما على مجلس الإدارة أن يجري تغييرات في القيادات العليا. لكن من الطريف أن بعض القيادات التي تمت تنحيتها لديها مقدرة ومهارة جيدة لتسويق نفسها عند الآخرين. وهذه القدرة التسويقية هي التي جعلت تردي الأداء يستمر سنين طويلة، فهؤلاء لديهم قدرة عجيبة على التلبيس على الآخرين.
وينطبق قوله تعالى على هذا النوع: «وإن يقولوا تسمع لقولهم» سورة المنافقون، الآية 4. أي أن السامع يعجب بحديثهم لحسنه. وفي هذا يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ “إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار” متفق عليه. وألحن تعني أنه يحسن عرض كلامه وبيانه بما يعطيه القدرة على تلبيس الحقيقة على السامعين. وإن من البيان لسحرا، وما ذلك بخاف على المولى سبحانه.
هناك أجهزة رقابة ومتابعة كالبرلمانات ومجالس الشورى، والمجالس العليا. ومن اختصاصات هذه المؤسسات التعرف على أداء الأجهزة الحكومية، كما هو من دون بهرجة، قدر المستطاع ، ومن وسائل التعرف استدعاء مسؤولي الأجهزة الحكومية ومناقشتهم. لكن بعض هؤلاء المسؤولين لديهم شطارة في تزويق الكلام ولحنه على السامعين. وهنا مشكلة كبيرة تواجه تلك الأجهزة الرقابية: كيف يتعرفون على جعجعة أنتجت طحينا وجعجعة لم تنتج؟
من واجب مجلس الشورى أن يبحث عن طرق تساعده على ألا يقع تحت خداع لحن القول وتزويقه، وأن تساعده على اختبار وتمحيص كلام المسؤول التنفيذي. عليهم الاستعانة بوسائل تساعدهم على التمييز بين غث كلام المسؤول وسمينه. أذكر إبان دراستي في أمريكا، أن الكونجرس الأمريكي (حينما يستجوب بعض المسؤولين) يستعين بخبرات مهنية عالية من غير أعضاء المجلس لمساعدته في مناقشة واستجواب بعض المسؤولين، ومراجعة وتقييم التقارير التي يقدمونها. وبعض استجوابات هؤلاء المهنيين تستغرق ساعات.
فهناك تعلم موقنا ما كنت إلا في غرور
بنى أحد الخلفاء قصورا في بغداد، فدخل عليه كبار القوم والشعراء يهنئونه. وكان ممن دخل الشاعر أبو العتاهية، فقال للخليفة:
عش ما بداك سالما في ظل شاهقة القصور
يسعى إليك بما اشتهت لدى الأرواح وفي البكور
فإذا النفوس تقعقعت في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا ما كنت إلا في غرور
فبكى الخليفة حتى أغمي عليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي