جامعة الملك عبد الله ورحلة ما بعد الافتتاح
نحمد الله - سبحانه وتعالى - على ما نحن فيه من نعم عظيمة, فمع انقضاء شهر الرحمة والغفران شهر رمضان وما حمله من بشائر خير بدخوله وسلامة الأمير محمد بن نايف إلى انتهاء توسعة المسعى ثم إسلام أكثر من 660 عاملا صينيا في مشروع قطار الحرمين وحلول عيد الفطر وتزامن أفراحنا بالعيد مع اليوم الوطني ثم افتتاح وتدشين الحدث العلمي الأهم والأعظم على مستوى العالم, جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية. هذه الأحداث والإنجازات السعودية العظيمة وغيرها كثير جاءت وتجيء والعالم يعيش مرحلة من الانهيارات الأخلاقية والاقتصادية والمالية والأمراض والحروب الداخلية والخارجية الطاحنة, ما يجعلنا جميعا في السعودية نتوجه بالشكر والحمد والعرفان لله - سبحانه وتعالى - عليها.
جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية كانت حلما ورؤية للملك عبد الله بن عبد العزيز لما يزيد على 25 عاما كما أخبر هو ـ حفظه الله ـ بذلك, هذا الحلم لم يكن حلم أجيال أو رؤيتها لأننا كأجيال سابقة كان حلمنا هو الحصول على مقعد دراسي في إحدى جامعاتنا السعودية, خصوصا مع مرحلة إيقاف الابتعاث, خصوصا المواطنين الذين أنعم الله عليهم بأبناء وبنات متميزين علميا وغير قادرين ماديا على ابتعاثهم, ولهذا لم تكن جامعة الملك عبد الله بهذا الثوب العلمي العالمي حلما أو رؤية لنا, ولهذا سنعشق حلم خادم الحرمين الشريفين ونعمل على جعله رسالة خير لكل جزء أو شبر من أرض المملكة العربية السعودية أولا ثم العالم أجمع ثانيا.
جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية تحمل في طياتها غير العلمية عديدا من الرسائل والتجارب التي يجب أن توثق حتى نستطيع وتستطيع معنا الأجيال القادمة محاكاتها والاستفادة منها, فمن الحلم إلى الواقع المشاهد رحلة عن التفكير والتأمل والرؤية والتخطيط والمناقشة والتمويل والمراجعة والتنفيذ والتقديم والمتابعة لأدق التفاصيل التي تغيب عن كثير من مسؤولينا, ولعلنا نتذكر جميعا المتابعة المستمرة لخادم الحرمين الشريفين لأعمال الإنشاء وكذلك الزيارة التفقدية التفصيلية للموقع قبل حفل الافتتاح بيوم وكيف اطمأن على كل صغيرة وكبيرة, وهو ما نأمل أن نراه في قياداتنا الإدارية والتنفيذية عند متابعة المشاريع التي تزخر بها السعودية اليوم. رحلة جامعة الملك عبد الله بعد التدشين والافتتاح رحلة ذات أبعاد علمية ومكانية مهمة تؤثر وتتأثر بها مختلف الجامعات الواقعة في إطار تأثيرها المكاني القريب والعلمي البعيد, ولهذا فإن دور جامعة الملك عبد الله يجب أن يكون مؤثرا بشكل مباشر في كل الجامعات والكليات الواقعة ضمن إطارها المكاني في منطقة مكة المكرمة أولا ثم المملكة ثانيا ثم العالم ثالثا, ففي الإطار المكاني الأول تعد الجامعات والكليات الحكومية والأهلية الواقعة في منطقة مكة المكرمة في أمس الحاجة إلى الاستفادة من الإمكانات التي تحققت لجامعة الملك عبد الله, بحيث تكون هناك لقاءات وتواصل بين أساتذة جامعة الملك عبد الله والجامعات الأخرى وتبادل علمي وطلابي في مختلف المجالات ذات العلاقة بمجال التعليم في الجامعة, هذا الأثر يجب أن يكون هدفا استراتيجيا للجامعة والجامعات والكليات في المنطقة, وينطلق من استراتيجية شراكة محددة الأهداف والمهام والمخرجات بحيث يمكن قياس هذا الأثر كل عام حتى نحقق الحلم الأعظم لخادم الحرمين الشريفين من وجود جامعة بحجم وإمكانات جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية. وهنا لا بد من التأكيد على أن هذا الهدف الاستراتيجي يجب ألا يكون خيارا فرديا لكل جامعة وكلية وإنما يجب أن يكون ضمن استراتيجية تنمية منطقة مكة المكرمة في بعدها الإنساني ''بناء الإنسان''.
التأثير الإيجابي الآخر المأمول من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في بعدها المكاني, حيث نعرف جميعا أن موقع الجامعة ليس ضمن مدينة مكتملة الأركان التنموية الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والإنسانية وإنما هي جامعة تقع ضمن إطار حرم جامعي يحتاج إلى وجود التلاحم مع المحيط الإنساني الخارجي, وهذا يتطلب دراسة علاقة الجامعة العضوية مع المواقع المحيطة بها خصوصا المدن الرئيسية ذات المقومات الإنسانية والاقتصادية مثل رابغ وجدة وثول ومدينة الملك عبد الله الاقتصادية ومدينة مكة المكرمة والطائف وبعض المحافظات المرتبطة بها وربما الارتباط المكاني الأبعد حتى المدينة المنورة.
إن عدم الاهتمام المبكر بالارتباط المكاني العضوي لجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية بمحيطها الخارجي سيجعلها كما يقول المخططون والاقتصاديون التنمويون Artificial City بمعنى مدينة غير إنسانية لأن العاملين والمتعلمين فيها لا يجدون روح المدينة الطبيعية بمكونات الإنسانية التي يتعايش معها سكانها والعاملون فيها, ولهذا فإن الاهتمام المبكر بالارتباط المكاني العضوي للجامعة مع محيطها الخارجي أو في غاية الأهمية لتحقيق استمرارها واستدامتها واستقرار العاملين والمتعلمين فيها, وهذا الأمر يتطلب من الآن وضع المخطط العمراني المحقق لذلك بكل عناصره الأساسية وفي مقدمتها شبكات الطرق والنقل ووسائله المختلفة وتطوير أنظمة التخطيط والبناء في المواقع المجاورة لها من مدن وقرى بما يتفق ومعاييرها الإنشائية, وبهذا نحقق عديدا من الأهداف العلمية والإنشائية والاقتصادية وغيرها كثير وتصبح بذلك جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية منارة في تحقيق التنمية الشاملة المستدامة لها ولمن يقع في محيط تأثيرها العلمي والمكاني.
جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية تجربة تؤكد إمكانية تحقيق كل الأحلام حتى مع إدراك المسؤول الحالم أن عليه لتحقيق حلمه تسخير كل إمكاناته وفرحته لهذا الحلم, وأن الواحد منا لا يكفيه أن يحلم أو أن يحقق بعض الخطوات لتحقيق الحلم, لأن الانتقال بالحلم إلى واقع ملموس معاش يحتاج إلى رؤية وبرنامج وتمويل ومتابعة وتقديم والدخول في تفاصيل التفاصيل للتأكد من أن هذا الحلم قادر على الانتقال إلى الواقع ومن خلال مساعدين صادقين أمينين محاسبين, مكرمين أو معاقبين على العطاء والإنجاز أو التخاذل والمماطلة والتهريج.
وأخيرا أتمنى أن توثق تجربة جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية كنموذج لكيفية تحقيق الحلم وجعله واقعا ليس من خلال توفير الدعم المالي له فقط ولكن لتكامل عناصر العمل الناجح من الإرادة إلى التنفيذ في أدق تفاصيلها, ولو كان المال وحده ينفع كما يقول البعض لما رأينا مئات المشاريع وبمليارات الريالات لم يتم تنفيذها منذ سنوات. بارك الله في كل جهد يعمل من أجل هذا الوطن الحبيب.
وقفة تأمل
« وطن لا نحميه لا نستحق أن نعيش فيه»