طفرة التعليم العالي والانتقال إلى التنمية النوعية

عشر سنوات من الآن سيذكر التاريخ النقلة الكبيرة والنوعية في التعليم العالي السعودي، والذي يشكل حلم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله - في أن تصبح المملكة منارة علم ومعرفة تخدم أصقاع المعمورة بكافة بلدانها وأعراقها وطوائفها وأديانها. هذا الحلم الكبير بدأ تنفيذه عندما فتح الملك عبد الله مجال الابتعاث على مصراعيه دون قيود أو شروط معقدة على أن يكون في التخصصات العلمية والتطبيقية. حتى أننا لم نسمع عن أي طالب تقدم للابتعاث الخارجي وانطبقت عليه الشروط البسيطة إلا وحصل على بعثة دراسية، على الرغم من صعوبة قبول الطالب السعودي في الجامعات الغربية كأثر سيئ من نتائج أعمال 11 أيلول (سبتمبر) البغيضة. وتزامن معه فتح فروع للجامعات في المحافظات النائية لتتحول معظمها إلى جامعات مستقلة هذا العام، لدرجة أن أحد المطلعين أشار إلى أن المملكة تشهد افتتاح جامعة جديدة كل ثلاثة أيام. ولم يعد بمقدور خريجي الثانوية العامة التعذر بعدم القبول في أي من تلك الجامعات. إذ إن قبول الطالب في الجامعة أصبح سهلاً ومتيسراً لدرجة أن أي طالب أو طالبة يجد قبولا في الجامعة بشكل تلقائي وكأنه انتقل من مرحلة الإعدادية إلى الثانوية.
بهذه الخطوات الجبارة، أصبح تحقيق حلم الطالب السعودي في دخول الجامعة ومواصلة تعليمه العالي يسير المنال. والذي عاش عصر الابتعاث في التسعينيات يعي أهمية هذه الخطوات الجبارة. ففي التسعينيات كان عدد الطلبة السعوديين الذين يدرسون على حسابهم الخاص أكثر من المبتعثين من القطاعات الحكومية. وكان مجرد الحصول على قبول في إحدى الجامعات السعودية يستوجب احتفال العائلة بقبول ابنها حتى وإن كان في تخصص غير مرغوب فيه، وحتى الجامعات السعودية لم تعد تقدم فرصا وظيفية للمعيدين لإكمال دراساتهم العليا إلا في نطاق ضيق. لتعاني الجامعات السعودية في الوقت الحالي نقصا في عدد أعضاء هيئة التدريس السعودية. أما بعد اليوم وفي حال استمرار هذا التوجه فإننا قد لا نجد مشكلة في تهيئة كوادر تدريس سعودية في الجامعات السعودية التي لم نعد نعرف عددها الآن، بينما كان عدد الجامعات السعودية السبع في الماضي بوضع ضمن أسئلة المسابقات الثقافية في الإذاعة والتلفاز لسهولة الإجابة عنها، لأن العدد لم يتغير منذ سنوات طويلة حتى خيل لنا أن افتتاح جامعة ثامنة في المملكة ضرب من الخيال الذي لا يجرؤ أحد حتى على مناقشته.
لقد تحقق الحلم اليوم وأصبحت مدن صغيرة بحجم الدوادمي تحتضن جامعة. بل إننا تجاوزنا هذا الحلم لننشئ جامعة بمقاييس عالمية في البحث والتطوير اسمها جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، لتستقطب أفضل الدارسين والباحثين من جميع أنحاء العالم. ولم يكن هذا الإنجاز فقط في إنشاء الجامعة نفسها، بل في فترة الإنجاز التي لم تتجاوز السنتين من العمر إلا وأصبحت حقيقة تضم في جنباتها طلابا من جنسيات مختلفة تجاوزت الخمسين جنسية، وفي منطقة مناسبة وملائمة لطبيعة الجامعات المتخصصة في البحث والتطوير تتسم بالهدوء والبُعد عن ضجيج المدن وتلوثها. وسننتظر السنوات العشر القادمة ليصبح عدد طلاب تلك الجامعة نحو ألفي طالب يقومون بإجراء بحوث ودراسات تقنية تهتم بالطاقة والزراعة والبيئة وغيرها من العلوم التي ستعود بالفائدة الكبيرة على المملكة، ولعل أهمها هو نقل التقنية من العالم الخارجي وتوطينها في المملكة عن طريق استقطاب أهم علماء البحث والتطوير في العالم يساندهم فيها نخبة مميزة من أميز طلاب العلم في العالم.
ولنا أن نتخيل كيف سيكون الحال عليه بعد كل هذا خلال السنوات العشر القادمة. سنجد أن المملكة أصبحت بالفعل منارة للعلم والمعرفة ليس فقط في ثول، بل وفي جميع أطرافها. إذ سينضم المبتعثون الحاليون من السعوديين والسعوديات إلى قطاعات تنموية أخرى في مناحي البلاد المختلفة، ليرتفع بذلك نسبة مساهمة المتعلمين في الحراك التنموي مما يسهم في زيادة فعالية وكفاءة النمو والتطوير. وسنجد جيلاً سعودياً منافساً بقوة في شتى مجالات العمل، إذ إن أبناء الجيل المتعلم لا بد وأن يكونوا ذوي توجه علمي يخدم مناحي الحياة بطريقة أكثر كفاءة. ولك أن تتخيل أن معظم آباء حاملي الدكتوراة من المعاصرين الحاليين لم يلتحقوا بصفوف التعليم الأولية أو أنهم لم يتجاوزوا سنوات المراحل الإعدادية، فما بالنا ونحن سنشهد جيلا قادما آباؤهم تجاوزوا المرحلة الجامعية من التعليم وكيف سيكون أثر ذلك في طريقة تربيتهم واعتمادهم على أنفسهم لنجد جيلا أكثر نضجاً وتفتحتاً وقبولاً في التعامل مع الحياة، حيث سنجد جيلاً ناضجاً فكرياً وخلقياً حتى وإن كان عاطلاً عن العمل أو فقيراً أو محتاجاً. لذا سنجد أنفسنا نعيش في مجتمع متحضر بالفعل، يتعامل مع مواضيع عصره بعقلانية وواقعية أكبر ويتم تحقيق التنمية النوعية التي كنا نبحث عنها منذ سنوات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي