الابن الكبسولة

حين يقوم المزارع بغرس أشجاره على أمل أن تثمر يوما، فإنه يحرص على تسميدها وريها وتشذيب أغصانها وركزها جيدا حتى لا يميل جذعها حين تكبر، وتمتد عنايته بها لأعوام طوال قبل أن يبدأ في قطف ثمارها، خلال ذلك الزمن تكون جميع الفصول المتعاقبة بتقلباتها المختلفة من برد ومطر وقيظ وعواصف وغبار قد مرت على تلك الأشجار فزادتها صلابة وقوة وتكيفا مع الظروف المختلفة كافة.
تربيتك لأبنائك مثل غرس الفلاح لأشجاره تماما، وحتى لا تذهب تضحيتك وجهودك وعطاؤك هباء منثورا فعليك أن تدع أبناءك يعيشون تقلبات الحياة ومطباتها وتراقب من بعيد كيف يتعاملون معها وهل سينجحون في ذلك؟ ولا تتدخل بشكل مباشر وسريع إلا أن تطلب الأمر ذلك، بالمقابل فإن حمايتك المفرطة والاهتمام المبالغ في حرصك عليهم سيسهم في جعلهم مثل قطع البسكويت الهشة أقل ضغطة ناعمة تكسرهم، ما يحدث حاليا تحت مسمى التربية الحديثة هو عملية تحويل جذرية للأبناء إلى مجرد كبسولات مبرمجة تتمتع بأقصى درجات الحماية الخارجية في الوقت نفسه الذي تكون فيه داخليا في قمة الهشاشة والضعف أمام مواقف الحياة التي تتطلب صلابة وثقة وحسن تصرف، ركضهم نحوك وطلب مساعدتك في كل صغيرة وكبيرة سيلغي شخصياتهم ومع الأيام سيعتادون على تلك الكبسولات التي ستنكسر مباشرة عقب رحيلك عن هذه الحياة. يتشاجر الطفل مع أصدقائه في المدرسة فتهرع الأم ويهرع الأب لحل مشكلته وتحذير المعلمة والإدارة ومن تشاجر معه بالويل والثبور إن تكرر الأمر، والطفل في كبسولته يكتفي بالتفرج، تعاني الابنة تنمر بنات خالاتها وعماتها أو صديقاتها وتتعقد نفسيتها فتشمر الأم عن ساعديها وتمد لسانها وتهدد وتتوعد من يعقد نفسية ابنتها بأنها ستأخذ حقها مضاعفا، والابنة في كبسولتها تكتفي بالتفرج، أما الابن المراهق فهو في عالم آخر يسبح في كبسولته حيث الألعاب الإلكترونية والبلاي ستيشن وطلعات المقاهي و"حولوا لي فلوس"، بعيدا عن أي مسؤولية يتطلبها منه الأب أو مشاوير الأسرة أو المساهمة في مساعدة إخوانه، الأم في الأغلب تقوم بحمايته حتى لا تتأثر نفسيته، أما ما ستنتجه الكبسولة بحكم وجود الأبناء فيها فهو الدلال الزائد والطلبات اللامتناهية بغض النظر عن ظروف الأسرة المادية، والنرجسية المتصاعدة وعدم الإحساس بالمسؤولية تجاه الأسرة، والعناد وعدم الإحساس بالامتنان والشخصية المهزوزة... إلخ!
وخزة:
"كل تلك الكبسولات التي صنعتموها لأبنائكم ستتدحرج بعيدا عنكم حين تبلغون من العمر عتيا وتحتاجون إلى وجودهم معكم.. فأصحاب الكبسولات يأخذون ولا يعطون هكذا علمتموهم"!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي