تشابك التجارة بخلافات السياسة
لا يحتاج الأمر إلى بحث طويل، من أجل معرفة أن التشابك التجاري العالمي قوي، على الرغم من كل المنغصات والصراعات والخلافات التي حدثت في السابق، والتي ستحدث في المستقبل. ورغم الأصوات التي علت خلال الأعوام الماضية، ولا سيما على الساحة الأمريكية، بضرورة تحقيق ما سمي "فك الارتباط" التجاري مع الصين مثلا، إلا أن التجارة مع بكين بلغت أعلى مستوياتها في العام الماضي.
ونلاحظ أنه خلال فترة حكم الرئيس السابق دونالد ترمب، كانت العلاقات الاقتصادية بين أكبر اقتصادين في العالم، في أسوأ حالاتها، لكن التبادل التجاري نما بصورة ملحوظة في تلك الفترة، بل شهدت العلاقات حربا تجارية، عبر سياسة رفع الرسوم الجمركية على الواردات الصينية، وبالعكس، وبلغت حدة العلاقات أن البيت الأبيض هدد آنذاك حتى الشركات الأمريكية التي تعمل في الصين بعقوبات، إن لم تنقل نشاطاتها إلى الساحة الأمريكية.
ومن الواضح أن وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى السلطة في الولايات المتحدة، لم يغير كثيرا من حدة "العداء الاقتصادي" إن صح التعبير مع الصين، لكن هذا لم يمنع مرة أخرى من ارتفاع حجم التبادل التجاري بين الطرفين، الذي بلغ العام الماضي 690.6 مليار دولار. وأثبت الترابط التجاري العالمي بشكل عام وبين بكين وواشنطن بصورة خاصة، أنه حتى في فترة اضطراب سلاسل التوريد الدولية، كان تدفق السلع بينهما كبيرا. بمعنى آخر، أولئك الذين يعتقدون أن حل الخلافات التجارية يمكن أن يجري عبر القطيعة الاقتصادية، لا يقفون على جهة الصواب، استنادا إلى المعطيات والأرقام الراهنة. والأمر نفسه ينطبق على طبيعة التجارة بين الصين وبقية الدول ذات الاقتصادات المتقدمة. فالتداخل العالمي صار أكثر قوة مما كان عليه قبل عشرة أعوام مثلا.
فقد شهد التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والصين العام الماضي نموا ملحوظا، على الرغم من الأزمة التي مرت بها سلاسل التوريد. وبلغ حجم التجارة في العام المشار إليه أكثر من 912 مليار دولار، بزيادة سجلتها الجهات الرسمية الأوروبية عند 23 في المائة. النقطة الأهم في هذه المسألة أن الاقتصاد المرن يتمتع بحجم كبير ومتشعب، يصعب على أي جهة فك الترابط معه، بل تسير الأمور نحو مزيد من الترابط في الأعوام المقبلة، خصوصا في ظل توسع نطاق وجود الشركات الغربية على البر الصيني، إلى جانب أيضا، الميزة الرئيسة للسلع الآتية من الصين، وهي أنها أقل تكلفة من مثيلاتها التي تنتج على الساحة الغربية. أي أن المنتج الصيني سيبقى مطلوبا على الساحة الغربية بشكل عام، بصرف النظر عن نوعيته.
تجارة الصين مع العالم تتوسع، بما في ذلك بالطبع دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكل هذا يصب في النهاية في مسار النمو الاقتصادي الصيني، الذي تقدر الدوائر الدولية أن يسهم في ثلثي النمو العالمي خلال العام الجاري، بينما تشير التوقعات إلى وصول النمو في الولايات المتحدة إلى 1.4 في المائة على أكثر تقدير. ومع تخلي السلطات الصينية أخيرا عن القيود الصارمة التي فرضتها لمحاصرة جائحة كورونا وتوابعها، فمن المتوقع أن يرتفع حجم تجارة الصين مع العالم بنهاية العام الجاري إلى مستويات قياسية، ولا سيما مع تحسن وضعية سلاسل التوريد في الآونة الأخيرة. وستظل الخلافات التجارية بكل تأكيد حاضرة بين واشنطن وبكين، إلا أنه يبدو أن فك الارتباط التجاري ليس سهلا إن لم يكن مستحيلا. ومن هنا، لا تعد "نظرية" فك الارتباط واقعية، في عالم يترابط أصلا رغم كل الخلافات.