بأي شكل ستخرج أمريكا من أزمتها الاقتصادية؟

على الرغم من أجواء التفاؤل بقرب الخروج من الأزمة الاقتصادية, وهو تفاؤل مدعوم بالتراجع الكبير في عدد المفصولين من أعمالهم في الشهر الخامس مقارنة بالأشهر السابقة, وكذلك عودة الاستقرار إلى البنوك والمؤسسات المالية, وكل ذلك دفع أسواق الأسهم إلى الصعود وتجاوز الخسائر التي سجلت في العام الحالي, إلا أن الأزمة ما زالت طاحنة وستخرج أمريكا منها بفعل ما تم من إجراءات ومعالجات اشتركت معظم دول العالم الغنية الأخذ بها وتطبيقها إلا أن أمريكا ما بعد الأزمة ستكون بشكل جديد وأن صورتها ما بعد الأزمة هي غير صورتها ما قبل الأزمة.
فأمريكا استدانت مبالغ كبيرة جدا, وبالأخص من الصين, لتمويل خطة إنقاذ اقتصادها المتهاوي التي بلغت إلى الآن ما يقارب من 13 تريليون دولار, وهي ما زالت في حاجة إلى أموال ضخمة أخرى لتمويل عجز ميزانيتها المثقلة ببرامج إنفاق كبيرة مثل إصلاح قطاع التأمين الصحي واستمرار تمويل الحرب في أفغانستان والعراق, فأمريكا ستكون مدانة للصين وحدها بأكثر من تريليون دولار. خدمة الديون الأمريكية تمثل في الوقت الحالي ما يقارب 40 في المائة من الناتج القومي وستصعد هذه النسبة إلى حدود 80 في المائة. وهناك خوف قوي لدى المحللين الاقتصاديين وحتى عند رئيس البنك المركزي الأمريكي بأن الاستمرار في سياسة الاقتراض لتمويل العجز في الميزانية سينتهي بأمريكا إلى الإفلاس لأن خدمة الدين قد تتجاوز حد 100 في المائة من الناتج القومي. صحيح أن هناك من يقول إن الانتعاش الاقتصادي الذي بدأت مؤشراته بالظهور سيزيد ويرفع من العوائد الضريبية, وإن الحكومة الأمريكية ستستعيد الأموال التي دفعتها لإنقاذ البنوك والمصارف والشركات المنهارة, وكل ذلك سيمكن أمريكا من الحفاظ على النسبة نفسها في خدمة ديونها وهي 40 في المائة, إلا أن هذه الأقوال تبقى مجرد توقعات في ظل أزمة هي الأكبر في تاريخ أمريكا والعالم. أمريكا المثقلة بالديون حتى إن لم تصل خدمة ديونها إلى ما يعادل الناتج القومي ستفقدها مكانتها الاقتصادية وسيكون تأثيرها في الاقتصاد العالمي أقل مقارنة بالصين والاتحاد الأوروبي فستجد أمريكا نفسها بعد الأزمة بأنها لم تعد اللاعب الأكثر تأثيرا في حركة الاقتصاد العالمي.
وإذا كان الدولار هو أحد أهم مظاهر الهيمنة الاقتصادية الأمريكية على العالم, فهو العملة الرئيسة في العالم, وهو العملة التي يباع ويشترى بها البترول ومعظم المعادن والمنتجات الرئيسة, وهو الذي له الحصة الكبرى من الاحتياطات النقدية لمعظم دول العالم, إلا أنه هو الآخر سيكون من أهم ضحايا هذه الأزمة. هناك من الخبراء الاقتصاديين من يتوقع استمرار تراجع قيمة الدولار أمام العملات الرئيسة في العالم وبالأخص أمام العملة الأوروبية واليابانية والصينية, فمن المتوقع أن يخسر الدولار ما يقارب من 50 في المائة من قيمته أمام اليورو, فهناك توقعات اقتصادية أن قيمة اليورو ستصل إلى ثلاثة دولارات في حدود عام 2015 وأن قيمته أمام الين الياباني ستلامس 50 ينا يابانيا, وهو الآن يتحرك دون الـ 100 بقليل. أمريكا حسب رأي بعض المحللين الاقتصاديين ستخرج من أزمتها الاقتصادية بدولار ضعيف في مقابل العملات الأخرى, وهذا ستكون له آثار اقتصادية في داخل أمريكا وخارجها. صحيح أن هناك من يعتقد أن أمريكا نفسها هي التي أرادت الضعف لعملتها لتعزيز صادراتها والحد من عجزها التجاري مع العالم, ولكن هناك شكوكا قوية بنجاح مثل هذه السياسة على المدى الطويل في ظل تنامي دول صناعية مثل الصين ما يجعل منافستها ليس بالأمر الصعب, بل ربما مستحيل, وبالتالي سيدفع الدولار الضعيف إلى ارتفاع نسبة التضخم, وهذا بدوره سيسهم في ضعف الاقتصاد الأمريكي.
وهل ستخرج أمريكا من أزمتها الاقتصادية وهناك سيارة في العالم تحمل علامة صنعت في أمريكا؟ الأزمة الاقتصادية الحالية عجلت بانهيار قطاع صناعة السيارات في أمريكا الذي هو في الأصل كان يعاني مشكلات جوهرية, فشركة كرايسلر أفلست واشترتها شركة فيات الإيطالية, ولولا صفقة بيعها لانتهى بها الحال إما إلى التصفية بالكامل وإما البقاء كشركة صغيرة لا يعلم مصيرها في المستقبل. أما شركة جنرال موتورز, وهي الشركة العملاقة في عالم السيارات التي حاولت الحكومة الأمريكية إنقاذها بشتى الطرق, إلا أنها استسلمت في النهاية ولم تنفعها عشرات المليارات من الدولارات التي حصلت عليها لتعلن أخيرا إفلاسها. فكيف ستكون صورة أمريكا من غير شركة جنرال موتورز؟ فمستقبل هذه الشركة سيكون في أحسن حالاته الخروج من إفلاسها بشركة صغيرة ومحدودة جدا وإن فشلت محاولات إنقاذها من الإفلاس فإنها هي الأخرى ستباع أجزاء والشركات الصينية تترقب للانقضاض عليها والتهامها, وليس من المستبعد أن نركب الكابرس والسوبر وقد كتب عليها علامة صنعت في الصين.
صورة أمريكا عند العالم أنها الدولة الأغنى والأكثر استهلاكا, وأنها مقصد المهاجرين وأرض الفرص والأحلام, ولكن هذه الأزمة هزت هذه الصورة في عقول الناس, فنسبة البطالة أوشكت أن تصل إلى 10 في المائة, وهي نسبة لم تعهدها في الـ 30 السنة الماضية, وأن هناك أكثر من 13 مدينة أمريكية, وبالأخص في ولاية كاليفورنيا وصلت نسبة البطالة فيها إلى أكثر من 10 في المائة, بل إن بعضها تجاوزت نسبة البطالة فيها 20 في المائة. بل إن نسب البطالة المعلنة لا تعكس الواقع على حقيقته, لأن هناك الملايين من العاطلين عن العمل ممن يعملون في أعمال مؤقتة وبدوام جزئي وبأجور متدنية. وإذا طال أمد الأزمة الاقتصادية وتراكمت أعداد العاطلين عن العمل فإن أمريكا ستخرج من أزمتها بشريحة كبيرة من الفقراء.
وأخيرا هل ستتأثر الوحدة الأمريكية بهذه الأزمة, فهناك ولايات أمريكية كثيرة تعاني عجزا ماليا كبيرا لإدارة نفسها وتسيير شؤونها, والسؤال المهم هو: هل يؤدي هذا الضعف الاقتصادي إلى التفكير في الانفصال أو على الأقل ممارسة مزيد من الاستقلال؟ بالطبع ما زال هناك كثير من المصالح التي ما زالت تبقي الولايات الأمريكية في اتحادها ولكن من يقرأ التاريخ الأمريكي يعرف أنها وحدة قابلة للفك لأنها قائمة على المصالح وليست على المبادئ وبتغير المصالح قد تنتفي الحاجة إلى مثل هذه الوحدة, فهل هذه الأزمة الاقتصادية ستنتهي بأمريكا إلى دولة أصغر.
آخر الكلام أنها أزمة اقتصادية بحجم الثقب الأسود, وهناك من يحذر من الإحساس الكاذب بقرب انتهائها, وأنه إذا عادت شركة جنرال موتورز من إفلاسها فإنها ستعود كما هي تقول شركة أصغر حجما بكثير مما كانت عليه, فهل هذا أيضا سينطبق على الدولة الأم؟ وهل ستخرج أمريكا من أزمتها وهي أقل حجما وأقل ثروة وأضعف تأثيرا, أم أن أمريكا التي قامت وازدهرت وتعملقت بما عندها من مناخ يتيح للإبداع والمغامرة وأن مثل هذا المناخ لم تفقده أمريكا في هذه الأزمة وأنه هو الذي سيخرجها من أزمتها ويعيد لها صورتها التي اهتزت بفعل هذه الأزمة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي