أسير عقله

في أحد الأيام استدركت أني أفتقد أحد الأصدقاء منذ فترة. فعلى غير عادته لم يتصل بي منذ ما يزيد على الثلاثة أشهر، كما لاحظت غيابه الطويل عن الاجتماعات الدورية التي تجمع بعض الأصدقاء من حين إلى آخر. فبدا لي أن أتصل به لأسأل عن حاله، وفعلا اتصلت ومرارا، ولكن لا مجيب لهاتفه على الرغم من توالي المكالمات في أوقات مختلفة، لذا اتصلت بمن أعتقد أنه أكثرنا قرباً به نحن الأصدقاء. وبلغني من الصديق الآخر أنه ليس أفضل حظا مني بمعرفة ما بصاحبنا خصوصاً أنه بلغه من أحد زملائه بالعمل أنه استقال منذ أشهر ولم تعد هناك وسيلة لسبر خبره إلا بالذهاب إلى منزله واستطلاع شأنه، وهذا ما حدث فاصطحبت اثنين من الأصدقاء وذهبنا ذات مساء لمنزل صديقنا المفقود. وبعد طرق وجيز لبابه فتح الباب وكان لطيفاً كعادته استلمنا بالسلام والسؤال عن الصحة وصحة العيال، وطلب منا الدخول لمجلس البيت الذي بدا عليه بعض الهجران، فالغبار يكسو بعض الحاجيات، وقد لاحظ إدراكنا ذلك فبادر بالاعتذار - أن العائلة غير موجودة بالبيت منذ مدة وأنه لوحده ومقتصر على العيش في بعض البيت ويصعب عليه رعاية البيت بمفرده - لم نخف الدهشة من تلك الحقيقة، ولاحظ هو ذلك فأردف قائلاً "أطمئنكم أن الأمور على ما يرام ولم يحدث لي أو للعائلة أي مكروه، ولكن هناك أمرا ألم بي فلم أعد أريد إلا أن أتفرغ له وحتى لا تستبقوني بما لديكم من استفسارات أريدكم أن تعلموا أني لا أتعاطى أي مسكر أو مخدر أو مفتر أو منشط ولم أعد أشرب الشاي أو القهوة أو الدخان أو أي شيء عدا الماء والغذاء وأهتم بتوازن مكونات غذائي ليدعم ذلك صفاء ذهني وصحة بدني كما أني لا أرد على المكالمات الهاتفية وأكتفي به لطمأنة عائلتي عليّ. ولا أخرج من البيت إلا لشراء احتياجاتي الغذائية وسداد فواتير الخدمات. بقي أن تعلموا أيضا أني لست مريضاً بداء بدني أو نفسي وأن مشاعري متزنة تجاه الآخرين وتغمرني سعادة بما أنا فيه. ولا أرى أنني سأغير ما أنا عليه فلا تكدوا أنفسكم بجهد إقناعي بسلوك مغاير. وكما أن زيارتكم سرتني، إلا أني أريد منكم عدم تكرارها، وحث الآخرين على عدم المجيء لي والسؤال عني. وأرجو أن تعذروني في ألا أقدم لكم ما يقدم عادة للضيوف. والآن سأقول لكم ما هو أمري ليس رغبة مني في الشرح والإقناع ولكن إشفاقا على حيرتكم وأرجو ألا تقاطعوني بالاستفسار عن فحوى كلامي أو تجادلوا فهمي أو تحتجوا علي بقول أو فعل سابق، كما أرجو بختام حديثي أن تنهوا زيارتكم لي وأنتم مشكورون".
وتابع "إنني منصرف أستجمع ذهني لإدراك عقلي وسبر متناقضه وترتيب متماثله أطرح على نفسي أسئلة صعبة وأسجلها على جدران بيتي وأجادل نفسي عقيدتي فأكون الناسك المؤمن والشكاك المحاجج في آن واحد، أخوض في كل حوض وأشط حتى أبلغ منتهاه، وأستلهم الحقيقة فأحلجها بظواهر الشك حتى تنتفش وأشد على عقلي في أن يذهب مذاهب جديدة في الاستدلال والاستنتاج وألا يركن لمسلمة حتى يصطليها بأتون البحث والتمحيص، لذا أعيش في انقطاع لوحدي في هذا البيت وأجعل لي يوما من الأسبوع يكون يوم صفاء من كل فكر فأترك بهيمتي وفطرتي تعتريني فلا أبالي بما أنا عليه، يقودني هم اللحظة ودافع الشهوة فلا أهتم بتمييز ما أنا عليه ولا أستدرك وضعا أفضل مما أنا به، غرائزي هي السيد لي. وفي اليوم الذي يليه أزيل آثار بهيمتي وأرتقي بحسي ومشاعري فأستذكر من أحب وأصور لنفسي ذكريات الوفاء ولحظات الصفاء فأشفق حتى يؤلمني البكاء وفي باقي ذلك اليوم أستحضر حقدي وغيظي وكرهي وأستذكر مواقف الإذلال التي تعرضت لها والخذلان ممن شددت بهم ظهري والظلم الذي رزحت نفسي تحت ثقله فأهتاج بالغضب وأترك لنفسي حرية التعبير، فأتمثل النزاع مع المناوئين، أسب ذاك وأصرخ في وجه آخر وأعمد لأفعال لا يليق أن أوضحها لكم، وأداوم يومي على ذلك حتى يهدني الخوار وفي اليوم الذي يليه أترك الندم يأخذني كل مأخذ فأتذكر إخفاقاتي في الحياة وضيق حيلتي في معاشي وأخطائي بحكمي على المواقف وظلمي للآخرين وأجلد ذاتي تأنيباً حتى أنوء بحملي من الندم والشعور بالذنب. وفي اليوم الذي يليه أحلق في سماء الخيال واستجلب الصور التي أحلم بها فأنعتق من قيود الزمان والمكان وأرسم صوراً في ذهني تجعلني في غاية السرور, وأزور الأكوان التي لا توجد إلا في خيالي وأتذاكر وأحدث الناس الذين أخلقهم في ذهني وأصوغ حديثي لهم وردودهم لي وأستمتع بمحبتهم طاعتهم لي فأكون الملك المتوج بينهم الباذل لهم القادر عليهم. وفي اليوم الذي يليه أتقمص دور المصلح فأخوض في شؤون الناس منتقداً معيشتهم رافضاً ممارساتهم أقترح لهم الحلول وألتمس لهم القيم التي أرى بها استقامة عيشهم. أستنتج الحجج لرأيي من بطون الكتب أبحث عن شاردة أستشهد بها أو دليل أحمي به مقالي. وفوق منصة أعتليها أنافح عن مكارم الأخلاق وأشد على المرازئي بالتنديد والتحقير. وفي اليوم الذي يلي ذلك أتقمص دور المجرم المخادع والظالم الجسور أخطط للانتقام وأبرر الظلم وأحتقر الناجحين في الحياة وأستحضر العذر لي في سلبهم أموالهم وأرواحهم وفي اليوم الأخير من الأسبوع أكون العقل المتجرد الفاحص أدقق في الملاحظات والكتابات التي دونتها خلال أيام الأسبوع حال تجلياتي الذهنية وأصوغ منها معطيات جديدة واستنتاجات بها أدرك كل حالة وأناقش نفسي فيما برز لها من الأفكار. وأكتب لنفسي ملاحظات حتى أعالجها في تجلياتي وأستجلي تناقضاتي الذهنية، أصوغ حلولاً أربطها بقيد منطقي أو أشذب منها ما لا يستقيم مع النسق الفكري الذي أرتضيه، وأدرب نفسي على قبول صياغة جديدة لمسلمات فكرية جديدة بعد كدها كدود اللدود. هذا اليوم يصادف يومنا هذا الذي تزوروني فيه أجعل فيه يوم الانفتاح على العالم الخارجي ففيه أخرج لشؤوني وأزور عائلتي وأتصرف من خلال عقلي المتجدد فأكون في كل يوم يداور هذا اليوم شخصا بمنهاج وفكر جديد.
الآن وقد علمتم علة اختفائي وبات سري لكم مكشوفا أرجو أن يبقى هذا السر حكراً عليكم وألا تبوحوا به حتى آذن لكم، ولا يسعني في هذه اللحظة إلا أن أستأذنكم في العودة لخلوتي وتمنياتي لكم بحسن المعاش وألا تشغلوا بالكم بما سيؤول له أمري.
خرجنا ونحن في ذهول أشد مما دخلنا به ولكننا اتفقنا أن نحقق رجاءه بطي الأمر بلفافة النسيان، ولكن وبعد مرور 20 عاماً على لقائنا هذا بصاحبنا أردت أن أستفسر عما حدث له فقيل لي إنه بعد لقائنا بعامين خرج وجمع أقرباءه الأقربين وأبلغهم أنه بات ملكا لعقله وأنه يرغب في أن يستزيد في التأمل، لذا أراد أن يخلصهم من تبعيتهم له وتبعيته لهم فأسلمهم كل ما يملك من الدنيا من متاع وتخلى عن أي ارتباط وطلق زوجته وأبلغ أهله ألا يسألوا عنه أبداً وأنه لهم كأن لم يكن. وارتحل من يومه فلم يعلم أين بات وأين أصبح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي