الدعوة إلى قمة للأغنياء على غرار قمة نيويورك
كل واحد من هؤلاء غني ومشهور ولكنه من العيار الثقيل فكيف بهم إذا اجتمعوا في غرفة واحدة, فبدعوة من بيل جيت مؤسس "مايكروسوفت" العملاقة وزميله وارن بوفيت الثاني في قائمة أغنى أغنياء العالم اجتمع أغنياء أمريكا في اجتماع سري في بيت مدير جامعة روكفلر الأمريكية, وحضر الاجتماع إلى جانب جيت وبوفيت أغنياء كبار منهم تيد تيرنر والإعلامية المشهورة أوبري ورجل المال المشهور جورج سورس ومحافظ نيويورك بلومبيرك, وكان الموضوع الوحيد الذي على الطاولة هو حاجة الناس في ظل الأزمة الاقتصادية, فمجموع ثروة هؤلاء الأغنياء تتجاوز 120 مليار دولار وما قدموه من أموالهم الخاصة للأعمال الخيرية الإنسانية قد تجاوز 70 مليار دولار.
الاجتماعات واللقاءات الثنائية هي من الأمور المألوفة في حياة الأغنياء ورجال الأعمال ولكنها تأتي في الغالب اجتماعات للبحث عن فرص ومشاريع وتحالفات لزيادة أموالهم وتنمية ثرواتهم, ولكن الأمر غير المألوف هو أن يخصص هذا الاجتماع للبحث فقط في قضايا الناس وحاجاتهم. انشغل العالم بالأزمة الاقتصادية, ولكن ما اهتمت به دول العالم وحكوماتهم هو إنقاذ البنوك والمصارف والمؤسسات المالية التي تسببت في حدوث هذه الأزمة, وأما نصيب المواطن من هذه الأزمة فكان الفصل من العمل والطرد من البيوت والحرمان من المخصصات الاجتماعية. لقد اختار هؤلاء الأغنياء أن يتنادوا لاجتماع بعيدا عن الإعلام والشهرة وفي غرفة بسيطة وليس في منتجع أو فندق مشهور للوقوف جنب المؤسسات الخيرية ودعمها في مواجهة تبعات هذه الأزمة الاقتصادية.
لقد اختار المجتمعون كلمة الحاجة عنوانا لاجتماعهم, فتحديد حاجات الناس ومن ثم ترتيبها حسب الأهمية وبعدها تخصيص الموارد اللازمة للقيام بمشاريع خيرية في إطار هذه الحاجات المترتبة حسب أولويتها. ولقد استغرق الاجتماع نحو خمس ساعات من البحث المتواصل من أجل تحديد هذه الحاجات, وستكون هناك اجتماعات قادمة لمواصلة البحث وتحديد المشاريع المطلوبة.
إن هذا الاجتماع ومبادرة هؤلاء الأغنياء ليكون لهم دور في التخفيف من آثار الأزمة الاقتصادية يحمل دلالات لها معنى إنساني عظيم. وعلى الرغم من أنه لم تتسرب إلا معلومات قليلة عما دار في الاجتماع ولم يتسن إلى الآن معرفة طبيعة النتائج إلا أننا نستطيع أن نستخلص كثيرا من هذه الدلالات, ومنها:
1- هناك إحساس لدى كثير من الناس بأن رجال الأعمال والأغنياء لا يعيرون بالا لأوطانهم ومجتمعاتهم, وأن ولاءهم بالكامل لثرواتهم, فهم يهربون بأموالهم إلى حيث الربح الوفير ولا يبالون أن يتسبب ذلك في ازدياد البطالة وحرمان بلدانهم من عوائد استثماراتهم, فالانتماء للمجتمع يضعف كلما ازدادت أموالهم. وهذه القمة الاستثنائية لهؤلاء الأغنياء فيها تعبير عن درجة عالية من انتماء هؤلاء الأفراد لمجتمعاتهم. بل إن من دعا لهذا الاجتماع كرر مرارا أن عليهم أن يعيدوا هذه الأموال لمجتمعهم لأنه هو الأحق بها منهم. بلا شك أن من بين أغنيائنا ممن يحمل مثل هذا الشعور والانتماء للمجتمع, ولكننا نطمع أن تكثر عندنا مثل هذه النماذج, وأن نجد لهم حضورا قويا وطوعيا في دعم المشاريع الخيرية التي تعود بالخير على المجتمع.
2- صحيح أن بعض هؤلاء الأغنياء لهم مؤسساتهم الخيرية وكل مؤسسة من هذه المؤسسات لها نشاطاتها المتنوعة, ولكن هذا الاجتماع فيه تعبير عن أن ظروف الأزمة الاقتصادية تستوجب منهم العمل بشكل جماعي لتفعيل العمل الخيري في المجتمع, فالعمل الخيري أفضل بكثير إذا تم القيام به من خلال أو عبر مؤسسات منظمة وتدار من قبل أشخاص أكفاء ولكن هذه المؤسسات تعمل أيضا بشكل أفضل لو كان هناك تنسيق وتكامل بينها, وهذا ربما ما أراد المجتمعون تحقيقه في هذه القمة. وتتأكد الحاجة إلى مثل هذا التنسيق والتكامل في الجهود بين المؤسسات الخيرية في وقت الأزمات الشديدة, لأن مثل هذه الظروف تستدعي أن يكون هناك توظيف للموارد والجهود بأقصى إمكاناتها. وربما نستفيد من هذه القمة بالدعوة إلى أغنيائنا, وبالأخص المهتمين بشأن العمل الخيري, إلى الالتقاء والتشاور بينهم للخروج بمشاريع خيرية كبيرة.
3- إن الإعلان عن أن الحاجة هو عنوان الاجتماع فيه التفاتة مهمة, فالعمل الخيري هدفه الأول تلبية حاجات المجتمع التي ربما لا تستطيع المؤسسات العامة وحدها الوفاء بها. وما دام لكل مرحلة حاجات معينة فعلى المؤسسات الخيرية أن تجتهد في متابعة وتحديد حاجات المجتمع لأنها قد تشغل نفسها وتوجه مواردها وجهودها لغير حاجات المجتمع لعدم معرفتها بتلك الحاجات. فانعقاد قمة لتحديد حاجات المجتمع والاتفاق عليها في مثل هذا الظرف الاستثنائي هو عين الصواب, وهذا ما هو مطلوب دائما من المؤسسات الخيرية في مجتمعنا. وأمر آخر, وهو أيضا في غاية الأهمية, وهو تحديد المهم والأهم من بين هذه الحاجات لأن الانشغال بالمهم وترك الأهم هو الآخر في غير صالح المجتمع.
أخيرا نحن في حاجة إلى تعميق ثقافة المواطنة والانتماء للمجتمع عند الأغنياء وغير الأغنياء لأن الانتماء القوي وروح المواطنة هما الأساس لبناء المواطن المتفاعل مع حاجات مجتمعه. ولكن على الأغنياء بالخصوص مسؤولية أكبر لأنهم أكثر قدرة على تجسيد هذا الانتماء في أعمال ومشاريع تنهض بالمجتمع وترتقي به من خلال الإسهام في سد حاجاته وحل مشكلاته. من حق المجتمع أن يتطلع إلى رجال الأعمال ليعززوا مساهماتهم في مساعدة المجتمع على تخطي كثير من المشكلات التي يواجهها في الوقت الحاضر.