نجيب: أحقدُ عليكَ وأكرهُك!
* أهلاً بكم في مقتطفات الجمعة رقم 299، أرجو أن تنال رضاكم.
***
* حدّثُ الأسبوع: افتتاح الملك عبد الله مشاريع مدينة الجبيل في الظروف الاقتصادية الراكدة عالميا: في ظل صورةٍ بالغة القتامة تعتبر "سابك" حالة نادرة الآن بين عمالقة صناع البتروكيماويات في الدنيا، فهي ما زالت في أوجّ قوتها، بل حققت أعمالُها التشغيلية في الربع الأول هذا العام زيادة بما يقارب الثلاثة بالمئة عن العام الماضي، بينما يتهاوى العمالقة في العالم، وبعضهم تعرّوا حتى الإفلاس، ومنهم من أُقيم عليهم العزاء. واقعٌ رهيبٌ ومؤلم، ولكن "سابك" ما زالت صامدة، وهي صامدةٌ لأن فلسفة القِيَم المضافة نفعتها، وهنا الفكرة العبقرية في الاستفادة من الظرف والموقع والفرصة.. صحيحٌ أن "سابك" أُصيبتْ بضربةٍ في الخاصرة بعد الاستحواذ الشهير لفرع البلاستيك الذي (تخلـَّتْ) عنه "جنرال إلكتريك" لسابك بمبلغٍ موجع، وصحيح أنه جاء في وقتٍ ضاعفَ عمقَ الجرح، فمع حدوث الزلزال العالمي جاءت الخسارة المالية في الاستحواذ على الشركة الأمريكية لتضاعف الخسارة، وفي الأوقات العصيبة يكون النقدُ السائل المتوافر أعظم أهمية من الأرباح، بمعني أن أباً يفتح دِرجَه ويجد ريالاً يشتري به خبزاً الآن لأولاده الجائعين أفضل من ربح مائة ريال سيأتيه بعد عام.. فربما لا الأبُ ولا عياله يستطيعون الحياة حتى ذلك الوقت، هذه أهمية توافر الريال في حين الحاجة إليه.
***
* سببُ استمرار "سابك" هو ثقلها المالي، وتراكمها الربحي عبر السنوات السابقة، وربما ما زالت تجد طريقاً للقروض في وقت ضيـَّقتْ فيه البنوكُ في العالم بوابةَ القروض.. وهناك أمرٌ آخر أظن أن "سابك" تلعب به.. شيءٌ اسمُهُ آلية تحمل الألم. تعرفون لعبة من يصرخ أولاً حين يعض طفلان اصبعَي كل منهما، ومن يصرخ أولا يكون هو الخاسر، هذه الآلية هي التي تراهن عليها "سابك"، بأن تصمد إلى أن يصرخ الآخرون، وسمعنا صرخاتُ الألم، وأحيانا الموت، لمنافسي "سابك" في العالم. وهنا يأتي دورُ "سابك"، فالعالمُ لن يقف عن الصناعة، وإن قلّت المعدلات، وساءَ الاقتصاد، وبالتالي فالحاجة إلى ما تنتجه "سابك" سيبقى، وبغياب المنافسين أو بعضهم تتعاظم فرصة "سابك" في السوق الدولي.
***
* إذن ما المغزى؟ الملك عبد الله يقدم رسالة للعالم عن تفاؤله بالسوقِ العالمي، ليساهم مباشرة في إيقاظ رغبة التعافي لدى المريض العالمي المنطرح على القارات بإشعال مصاهر الأمل وهو يضع أصبعَه ليُعلن ببركة الله افتتاح مشاريع عملاقة أخرى ببلايين الدولارات. ويعلنُ أنه يساند صناعات البتروكيماويات السعودية، ليعطيها ثقةً هائلة في أسواق التمويل وأسواق الاستهلاك، وفي تعزيز دورها لرفد العجلة المائلة لعربة الاقتصاد العالمي.. برأيي، هذا هو المغزى!
***
* وتأتيني هاتان الرسالتان تعقيباً على ما ورد في قضية التعذيب والاغتصاب في "مقتطفات الجمعة" الماضية، والأولى أعدتُ تنقيحها وهذبتُ عباراتها الغاضبة والحزينة، وهي من الدكتورة هـ.م، وطلبت النشر، بل تحدّتني في ذلك:" ... لقد كرهتكَ بكل خليةٍ في جسمي وأنا أقرأ مقالـَك عن الاغتصاب، وبالذات الفقرة عن ما تعرضـَتْ له "فرجينيا وولف" (تقصد ما كشفتُ عنه بمذكرات كاتب إنجليزي أفصح للعالم أن فرجينيا وأختها فينيسا تعرضتا من طفولتهما لاعتداءٍ متكررٍ من قبل أخويْهما الأكبريْن غير الشقيقين جورج وجيرالد، ممّا سبب لها الاكتئابَ حتى الانتحار.) ولو كنتَ أمامي لشرّحتـُك بمشرطي الجراحي... عذّبتني نهاراً بما كنت لا أتعذب فيه إلا بكوابيس الليالي... نجيب: أحقدُ عليكَ وأكرهُك!." وبعد فترةٍ وصلت منها رسالة ثانية : "أنا الدكتورة هـ.م، إني أتأسّف على كل كلمةٍ قلتها لك في رسالتي السابقة، كنتُ تحت ضغطٍ نفسيٍّ رهيب وأنت تتكلم عن الاغتصاب ولم أرَ إلا نفسي طفلة تـُمَزَّقُ براءتُها من أخ غير شقيق يكبرني بعشرة أعوام... لذا لم ولن أتزوج فوهبتُ نفسي لنفسي، بأن أحقق نجاحاتي لي أنا فقط ، وتفوقتُ كطبيبةٍ جراحة، ولكني يا سيدي لا أنام. إني أشكرك وأعتذر، وأطلب منك ألا تكتفي بمقالةٍ واحدةٍ بل أن تعيدَ الموضوع مرات، ومرات. " أترون يا قرائي الأحباب؟ لم تـُغظني في رسالتها الأولى وإن أفرحتني بالرسالة الثانية، والسبب ما نعرفه عن الصراع الداخلي المُفجِع داخل هذه الأنفس المسحوقة من الداخل.. نفوسٌ تبقى وحيدة خائفة معتزلة في جزيرةِ الخوفِ الموحشة، محاطة بسياجٍ شائكٍ يفرض عزلة الاكتئاب وجرّ الذكريات. إن الدكتورة هـ.م حافزٌ صارخٌ ليجعلنا نعمل لمجتمع خال من أن يفرضَ الوحوشُ وحشيتـَهم على المغلوبين على أمرهم.. إنها مسئوليتنا أمام ألله أولا، ثم أمامهم وأمام المجتمع.. فالطوفان يُغرقُ الجميعَ إن لم تمنعه السدود.
***
* أحببتُ سؤالاً جاءني من قارئةٍ في زاوية "اسألوني" التي تظهر كل جمعة في جريدة "اليوم" عن "غوتِهْ"، ولطالما أحببت "غوته" أعظم شعراء وقصّاصي الألمان، وأسَرَني كتابه (الديوان الشرقي والغربي) أسْرَاً، وترجمته الأولى بالإنجليزية من مناراتِ الإضاءة اللغوية والفكرية.. وغوتِهْ أحبّ كل ما هو شرقي إسلامي، وتولـّعَ بالقرآن الكريم، فقال عنه: "لقد حاولتُ أن أكرهه ولم أستطع، بل جذبني وخلـّب لُبي حتى قرأته كاملاً فازداد إعجابي وذهولي به." بعد ذلك انتشرتْ ترجمةُ القرآن في ألمانيا كالموضة بعد كتاب الديوان الشرقي، إلى أن وقعت بيدي ترجمة معاني القرآن الكريم لتلميذ جوته وهو المستشرق الألماني الشهير "روكيرت Rueckert"، ويقول المترجمُ الإنجليزي إنها من أجمل ما تـُرجم لمعاني القرآن الكريم.. لأنها كانت كلها بأكملها مسجوعة.
في أمان الله..