أضواء المدينة والفقر والجريمة

شهدت المملكة تدفقات هائلة من سكان القرى إلى المدن الكبيرة خلال العقود الأربعة الماضية، وخاصة مدن: الرياض، جدة، مكة المكرمة، والدمام الكبرى. وكان هذا الحدث أمراً ضرورياً في بداية التنمية، لأن التقدم وفعاليات التنمية في المدن الرئيسة تتطلب هجرة الأيدي العاملة، ولكن استمرار الأمر على الوتيرة نفسها أدى إلى ظهور كثير من السلبيات في المدن الرئيسة.
يُشير أحد الباحثين في علم السكان، قبل 50 عاما تقريباً إلى أن "أضواء المدينة" في بعض الدول الإفريقية كانت تجذب كثيراً من الشباب لانبهارهم بأضوائها وفضولهم تجاه حياتها الصاخبة، دون التأكد من توافر أعمال مناسبة لهم، مما يؤدي إلى تفشي البطالة وانتشار الجريمة.
لا أعتقد أن هذا الوصف ينطبق – كلية - على ما يحدث في مدننا، ولكن الانطباع غير الدقيق لدى كثير من الشباب وبعض الأسر في المناطق البعيدة عن توافر الأعمال والعيش الرغيد في المدن الكبيرة، أدى إلى تدفق أعداد كبيرة غير مؤهلة لأسواق العمل في هذه المدن، مما أدى إلى ظهور أحياء فقيرة، نتيجة البطالة المرتفعة، ومن ثم الفقر المدقع. كما تسبب ذلك في الضغط على الخدمات والمرافق العامة وتزايد الازدحام المروري بشكل لا يطاق، كما هو في مدينة الرياض.
وأصبحت الأحياء الفقيرة مرتعاً مناسباً لتفريخ الجريمة، وترويج المخدرات، وتنظيم مجموعات للسلب والنهب داخل الأحياء الفقيرة وخارجها. لقد أصبح دخول بعض الأحياء الشعبية في بعض المدن الكبيرة محفوفاً بالمخاطر، ومثيراً للخوف لدى البعض، ومقلقاً حتى لرجال الأمن.
ولم يكن هذا الأمر غائباً عن أعين المسؤولين؛ لذلك سعت الدولة إلى تحقيق تنمية متوازنة، للحد من هجرة السكان وتخفيف تركزهم في محور التنمية المعروف (الدمام - الرياض – مكة المكرمة). فأنشأت عددا من الجامعات والمدن الاقتصادية في مناطق مختلفة ومحافظات متعددة.
ولكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الجهود، وإلى تقويم مستمر لمدى فاعلية هذه الاستراتيجيات والسياسات في تحقيق أهدافها المتمثلة في إحداث فرص وظيفية في تلك المناطق، ومن ثم الحد من تدفق المهاجرين إلى المدن الكبيرة المكتظة بالسكان، وقبل ذلك إحداث تنمية بشرية شاملة من خلال توفير التعليم المناسب والتدريب الفاعل. هذا فيما يتعلق بمصدر الهجرة، أما فيما يتعلق بمحطات وصولها (التي هي المدن الكبرى)، فلا بد من وضع حد للمنازل الآيلة للسقوط في الأحياء القديمة، ومنع تأجيرها، ووضع ضوابط لتأجير الصالح من المساكن القديمة، إضافة إلى ضرورة إحداث تطوير حضري في الأحياء القديمة ورفع مستوى الخدمات والمرافق المتوافرة بها.
وهنا لا بد من النظر في تطبيق ضوابط لتأجير المساكن ترتبط بعدد الغرف في المسكن وحالته، ومدى توافر المرافق الصحية به، بمعنى ألا يؤجر مسكن بغرفة نوم واحدة لأسرة تتكون من عشرة أشخاص. أقول ذلك لأن من الملاحظ في الأحياء القديمة قيام أعداد هائلة من الأفراد بالاشتراك في مسكن واحد، مما يرفع الكثافة السكانية، وما يواكبها من سلبيات لا تخفى على أحد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي