ذوبان الجليد: نظرة اقتصادية

الكرة الأرضية كوكب مائي.. هذه حقيقة لا تقبل الجدال ، فالغلاف المائي Hydrosphere من مياه المحطات المعروفة والبحار والبحيرات تغطي مساحة تزيد على 360 مليون كيلومتر مربع أي 71 في المائة من مساحة الكرة الأرضية، فيما يبلغ حجم المياه بهذه المسطحات المائية نحو 150 تريليون متر مكعب (150 ألف مليار متر كعب) من المياه المالحة التي يتبخر جزء منها بصورة مستدامة على هيئة بخار ماء يحيط بالكرة الأرضية مكوناً غلافاً جوياًAtmosphere محملاً بالسحب الركامية التي تحمل مياه الأمطار التي تمد الكرة الأرضية بالمياه العذبة المتجددة .. وحتى الغلاف اليابس من الأرض lithosphere الذي يغطي نحو خمس مساحة الأرض لا يخلو من المياه، إما على هيئة أنهار (وربما نهيرات) أو مياه جوفية في باطنه يقدر مخزونها المؤكد معاً 20 تريليون متر مكعب نصفها على الأقل مياه عذبة صالحة للاستخدام.. أما الجزء المتبقي من سطح الأرض نحو 10 في المائة، فهو غلاف جليدي Cryosphere من مياه متجمدة صلبة توجد على هيئة طبقات ثلجية (جليدية) في المناطق القطبية شمال وجنوب الكرة الأرضية, وأيضاً على قمم الجبال المرتفعة في قارات العالم، وتقدر كمية المياه الجليدية نحو 24 تريليون متر مكعب, وهذا مخزون ضخم من مياه عذبة صالحة للاستخدام لجميع الأغراض.
وبعد هذا نبدأ
لقد ظل الغلاف الجليدي للكرة الأرضية على مر العصور غير مستغل, وكان يمثل وحشا مجهولا لا يمكن الاقتراب منه حتى تمكن بعض الرحالة العظام في القرون الوسطى من اجتياز هذا المجهول على استحياء في بعض المحاولات الناجحة, وأمكن تهيئة الظروف لتوطين بعض القبائل به في بعض المواقع في المنطقة القطبية الشمالية (ألاسكا وجرينلاند) وبعض مناطق جبال الهيملايا الآسيوية والألب الأوروبية.. ورغم ذلك ظل هذا الغلاف (الحيوي) منسياً ليس على الخريطة الجغرافية فحسب بل أيضاً على الخريطة السياسية، إلى أن بدأ العلماء في النصف الثاني من القرن الماضي من خلال قياسات الأقمار الاصطناعية في رصد التغيرات البيئية والمناخية والخلل في التوازن في الغلاف الجوي المحيط بالأرض. وبدأت وكالات الأنباء في التحدث عن المخاطر التي قد تواجه الكرة الأرضية وسكانها من جراء تآكل درع غاز الأوزون الذي يحمي الكرة ألأرضية في فضاء المناطق القطبية، وتزايد مكونات الغازات الدفيئة (ثاني أكسيد الكربون والميثان وغيرها) وما ينتج عنها من ارتفاع ملحوظ في درجة حرارة الأرض وتعرضها لظاهرة "الاحترار العالمي" Global warming بصورة أسرع مما هو متوقع وبالتالي زيادة معدلات ذوبان الجليد وانحساره.
وفي عام 1988 قام برنامج الأمم المتحدة للبيئة وبالتعاون والتنسيق الكامل مع اللجنة الدولية للجليد ومنظمة اليونسكو وغيرها بوضع مشروع لرصد أكثر من 750 من الأنهار والطبقات الجليدية في تلك الدول وقياس تراجع الأنهار وحقول الجليد القارية بها. وصنفت بعضها باعتبارها مناطق (خطيرة) تتطلب المزيد من التدابير للإنذار المبكر مثل البحيرات الجليدية في نيبال وبوتان ومناطق الإنديز في بوليفيا والإكوادور وفي ألاسكا وغرب كندا في أمريكا الشمالية.
ونتيجة لذلك ظهرت على الساحة الاقتصادية مدرستان: مدرسة اقتصادية لها وجهة نظر تشاؤمية تجسد الآثار السلبية لهذه الظاهرة الطبيعية المستحدثة وتتفق أيضاً مع رأي علماء البيئة المحافظين على أن ذوبان الجليد سيؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحار والعواصف العاتية، وما ينجم عن ذلك من غرق مناطق الدلتا لبعض الأنهار المهمة والمناطق الساحلية المطلة على البحار والجزر المأهولة بالسكان، وبالتالي تعرض الشعوب إلى الهجرة الداخلية والخارجية، وما يسببه ذلك من خفض الناتج المحلي الإجمالي للدول المتأثرة بعد انخفاض المساحات المزروعة بها، وإزالة بعض الغابات وتدمير البنية الأساسية من طرق ومبان وغيرها. ومن الآثار السلبية الأخرى التغيرات التي قد تحدث في معدلات هطول الأمطار إقليمياً، ومما يؤدي إلى اختلاف الخريطة المائية الدولية وزيادة معدلات الهطول للأمطار في بعض المناطق يقابلها زيادة في معدلات الجفاف في المناطق القاحلة مع احتمالات لزيادة الملوحة للتربة وظهور آفات زراعية جديدة. ناهيك عن التأثير المباشر في الثروة السمكية وتعرض بعض الحيوانات القطبية للانقراض. وهو ما يخل بالتنوع الإحيائي وأنظمته.
وفي المقابل فإن هناك مدرسة اقتصادية متفائلة ترى جوانب إيجابية لهذه الظاهرة, وأنها ستؤدي في المستقبل القريب إلى مكتسبات اقتصادية لخير البشرية.. حيث يرى الخبراء أن الانصهار في حجم الجليد في البحار المتجمدة سيؤدي بالضرورة إلى فتح طرق مختصرة للملاحة بين المحيطات ويزيد من حركة النقل البحري ويسهل الوصول إلى الموارد الاقتصادية بين الدول على جانبي المحيط الأطلسي والمحيط الهادي.. كما يرى البعض أن هذه الظاهرة تعني سياحياً فتح مجالات استثمارية واعدة في مصادر جذب سياحي غير تقليدية.. أما بالنسبة للقطاع الزراعي فسيشهد تطوراً غير مسبوق في الإدارة الزراعية من جراء امتداد المواسم الزراعية، ما يعني زيادة في الإنتاج الزراعي والنمط المحصولي، إضافة إلى إمكانية شحن الموارد السمكية من الطرق الملاحية الجديدة، ومع ذلك فإن من أبرز ما يدعم هذه النظرة التفاؤلية ما ورد أخيراً في التقرير الصادر من هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية USGS الذي نشر أخيرا وأكد على الوفرة التامة للثروة المعدنية في القطب الشمالي، وأنه يوجد في باطن هذه المنطقة نحو 90 مليار برميل من النفط، تعادل نحو 10 في المائة من الاحتياطي المؤكد على المستوى العالمي، كما يوجد بها أيضاً نحو ثلث كمية الغاز الطبيعي غير المكتشف في العالم، علماً أن غالبية هذه الثروة النفطية موجود تحت سطح الجليد في الوقت الراهن، ومن هنا كان الاهتمام المتزايد من المفوضية الأوروبية بإطلاق ما يسمى "مبادرة القطب الشمالي" لعام 2008م التي تحث الدول ذات العلاقة بتوخي نظام الإدارة الرشيدة الدولية على تلك المنطقة والتي من المستهدف تحويلها إلى اتفاقية سارية المفعول قريبا.
وفي ظل هذا التباين في وجهات النظر للمدرسة الاقتصادية التي تنظر إلى ظاهرة ذوبان الجليد من جوانبه السلبية وأن إعادة التنمية في المناطق المتضررة لا يتناسب مع العائد الاقتصادي المتوقع، والمدرسة الاقتصادية المتفائلة التي تعرض الإمكانات الواعدة لاستغلال الظاهرة إيجابياً من خلال الأخذ بالاتجاهات العلمية والتقنية الجديدة لتنمية مواردها الاقتصادية، من حقنا أن نتساءل هل هذه الظاهرة الطبيعية التي يتعايش معها جيلنا الحالي نعمة أم نقمة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي