الحلقة المفقودة

زفت أنباء الصحافة قبل أيام قليلة خبر تأسيس شركة جديدة تقدم خدمات التمويل العقاري لراغبي السكن. بهذه الشركة يصبح عدد الشركات المشابهة التي تأسست خلال الفترة الماضية على ما أذكر خمسة شركات. وحسب علمي، فإن هناك عددا آخر من شركات التمويل العقاري تحت التأسيس، وينتظر الإعلان عن بدء أعمالها في الفترة القريبة القادمة. والملاحظ أن هذه الشركات نشأت في خضم الحديث عن قرب صدور أنظمة الرهن والتمويل العقاري، التي تمثل العمود الفقري لنشاط التمويل الذي تمارسه هذه الشركات، الأمر الذي يوحي بإمكانية تهافت المستثمرين على تأسيس شركات أخرى للنشاط ذاته بعد صدور تلك الأنظمة. والسؤال هو، هل هناك منتجات كافية من الوحدات السكنية الجاهزة للسكن، والملائمة لشروط آلية التمويل العقاري، ليتم تمويل شرائها من قبل كل تلك الشركات؟ الجواب بالنفي بكل بساطة، والإيضاح فيما يلي:
من المعلوم أن ثقافة التطوير الفردي للوحدات السكنية ثقافة متجذرة في المجتمع السعودي، وهي ثقافة ترسخت عبر آليات منح الأراضي الفردية وقروض صندوق التنمية العقاري. وتجربة تملك السكن للمواطن السعودي تمر بمراحل عديدة من المعاناة المريرة، تبدأ من البحث عن قطعة أرض مناسبة، خاصة إذا تذكرنا أن منح الأراضي متوقفة عمليا منذ فترة ليست بالقليلة، وأن الأراضي الممنوحة أصلا أراض غير قابلة للسكن في ظل عدم توافر الخدمات لها، وفي ظل بعد مواقعها عن البنية العمرانية في الغالب الأعم. ورحلة البحث عن قطعة الأرض المناسبة رحلة شاقة تشوبها معاناة الأسعار المرتفعة والمخططات الرديئة ومستويات التنفيذ المتهالكة، أضف إلى ذلك أن الأغلبية العظمى من المواطنين تحتاج إلى حلول تمويلية لشراء قطع الأراضي، الأمر الذي يعني التزام ذلك المواطن المسكين بسداد أقساط قطعة الأرض لعدد من السنين قبل أن يبدأ بالفعل في عملية البناء، ويقوم في الفترة نفسها بدفع قيمة إيجار مسكنه، في هدر واضح لموارد ذلك المواطن . وبعد أن تصبح قطعة الأرض في حوزة المواطن، تبدأ المرحلة الثانية من الرحلة التي يقوم فيها بإعداد تصميم منزل العمر. ولأن إمكانات ذلك المواطن متواضعة ، فإنه سيلجأ إلى مكتب خدمات هندسية متواضع المستوى، تكون أتعابه في حدود ميزانية المواطن، ويخرج المواطن بالتالي بناتج عمل يلائم تلك الأتعاب المتواضعة التي دفعها للمكتب، بمخططات هندسية رديئة، تفتقر إلى جودة العمل المهني المحترف ، علاوة على التجربة الخاصة التي يمر بها المواطن في مراجعة البلدية للحصول على رخصة البناء، وهي تجربة لها مذاقها الخاص. وبعد الحصول على رخصة البناء، تبدأ المرحلة التالية، وهي مرحلة إنجاز الحلم. يبحث المواطن المسكين عن مقاول للحفر، ثم مقاول للعظم، ثم مقاول للحم – عفوا – أقصد التشطيبات ، وهي مرحلة شديدة التعقيد، يقوم فيها المواطن بالتردد على محال مواد البناء لاختيار مواد التشطيبات، ثم العودة إلى الموقع للوقوف على العمال الذين يتحينون فرصة غياب المواطن للهروب للعمل في موقع عميل آخر. وبعد رحلة طويلة من عناء البناء قد تبلغ سنتين أو تزيد، وبعد فترات من التوقف ومعاودة العمل تبعا لقدرات ميزانية المواطن، يبدأ المواطن رحلة تأثيث المسكن الجديد، وقد يختار المواطن غالبا القفز على هذه المرحلة نظرا لقصور الإمكانات، فينتقل بأثاثه القديم البالي، ويبدأ بالتمتع بمنزل العمر ، ليكتشف بعد حين كم الأخطاء والمشاكل التي وقع فيها أثناء البناء. وإذا أخذت المواطن الجرأة لتصحيح بعض تلك الأخطاء سيكتشف مدى صعوبة ذلك الأمر، إذ إن تنفيذ أعمال المنزل تم مخالفا للمخططات الهندسية البسيطة التي أعدها له ذلك المكتب البسيط فقط للحصول على رخصة البناء، وتصبح عملية التصحيح أكثر صعوبة وهدرا من عملية البناء المضنية. هل يعلم أحد كم من المنازل في المملكة يتم بناؤها بهذه الطريقة ؟ إن الإحصاءات تقول إن 95 في المائة من المنازل في المملكة يتم بناؤها بهذه الطريقة من البناء الفردي. وبعملية حسابية بسيطة، فإذا فرضنا أن عملية البناء بهذه الطريقة تؤدي إلى هدر قدره 10 في المائة من تكلفة بناء المنزل، فإن هذه النسبة تتراكم لتصبح مئات الملايين المهدرة في تجارب عقيمة تؤدي فقط إلى بناء بنية عمرانية متهالكة نشهد أثرها كل يوم. وفي المقابل، وبمفهوم صناعي بحت، يمكن تقدير حجم الوفر الذي يمكن أن يحققه مفهوم التطوير الجماعي والشامل للوحدات السكنية بالمقارنة بالتطوير الفردي فشراء الأراضي ومواد البناء يتم بالجملة، وعقود المقاولين تكون أكثر وفرا، أضف إلى ذلك أن حجم مشاريع التطوير الشاملة يمكن من خلاله الاستعانة بقدرات هندسية أفضل، وتتم تحت إدارة أكثر احترافية، مما ينتج وحدات سكنية أكثر جودة، وأقل تكلفة، مع اعتبار عامل الوفر في الوقت والجهد.
مجمل الحديث في إطار التعليق على قضية نشوء شركات التمويل أن الوحدة السكنية التي تبنى بجهد فردي أكثر قبولا وأفضل تقييما لدى شركات التمويل العقاري فعين الوحدة في مجال التمويل العقاري تكون هي موضوع ضمان التمويل، وليس راتب الموظف أو دخله كما هو الحال في التمويل التجاري الذي تمارسه البنوك. وعليه، فإن جودة الوحدة وعمرها الافتراضي يلعب أن دورا أساسيا في تحديد قيمة الوحدة. وفي الغالب، فإن الوحدات التي يتم بناؤها بجهد فردي يتم تقييمها بقيمة أقل بكثير من تكلفتها الفعلية. الغريب هنا هذه الحلقة المفقودة ففي الوقت الذي نشهد اتجاه المستثمرين لتأسيس شركات للتمويل العقاري، نشهد غيابا أو تغييبا واضحا للاتجاه لتأسيس شركات متخصصة في تطوير المساكن. إن شركات التمويل العقاري لا يمكنها العمل من دون شركات لتطوير المساكن، فدون إيجاد هذه الحلقة وإكمال الدائرة لن تجد شركات التمويل العقاري مساكن ملائمة لتمويل شرائها، وفي النتيجة لن تحل مشكلة الإسكان في المملكة. إن حل المشكلة يتطلب مبادرات حقيقية وفاعلة لتأسيس شركات متخصصة في تطوير المساكن، ودور هيئة الإسكان حيوي في هذا المجال فالهيئة يعول عليها في دراسة المشكلة ووضع الحلول الملائمة لها، عبر تأسيس مناخ مشجع لنشوء مثل تلك الشركات، ومعالجة العوائق التي يتذرع بها المطورون العقاريون لتبرير قصور مساهماتهم عن الحل. والغريب أن هذا المجال يمثل فرصة حقيقية للاستثمار، خاصة في ظل الظروف التي أنتجتها الأزمة المالية العالمية، والانخفاض الملحوظ في أسعار الأراضي ومواد البناء. ويقيني أن مبادرة واحدة جادة لتأسيس شركة في هذا القطاع ستقود وراءها عديدا من المبادرات، في ظل ثقافة التقليد التي تغلب على المجتمع الاستثماري السعودي، وفي تقديري فإن مثل هذه المبادرة لن تأتي إلا من إحدى مؤسسات الدولة، ولا أجد أفضل من هيئة الإسكان لزرع بذرة مبادرة كهذه ، تؤسس أنموذجا يحتذى لعالم المستثمرين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي