تجارة الوهم
يشاهد المطالع للمساحات الإعلانية في الصحف اليومية، كماً من الإعلانات لأفراد يمارسون تجارة من نوع خاص، وإعلانات لبيع أرقام الهاتف ولوحات السيارات المميزة، وتسويق قطع أراض للحصول على دور في قروض صندوق التنمية العقاري، وغير ذلك من الأنشطة الوهمية. وأظل أتساءل حين أرى مثل هذه الإعلانات: من أين حصلت مثل هذه المنتجات على قيمة مالية لتصبح سلعة للمتاجرة؟ وهل هذه المنتجات منتجات تنموية تحمل أي أثر يذكر في جهود التنمية والتطوير للفرد والمجتمع؟ كيف يمكن لأي فرد أن يخلق سوقا سوداء لمنتجات يفترض في الأساس أن تكون غير ذات قيمة مالية، منتجات يفترض أن يحصل عليها المرء بطريق مباشر من مصدرها دون أن يضطر إلى دفع ثمن ما لها، مهما كبر هذا الثمن أو صغر؟
والحقيقة أن قصور الأداء في المصدر هو الذي يؤدي إلى خلق مثل هذه السوق السوداء، فلو كانت إجراءات التقديم لصندوق التنمية العقاري على سبيل المثال أكثر سلاسة وأكثر فهما وقربا للواقع، لما قام أحد بالالتفاف على تلك الإجراءات لتحقيق كسب من تقديم خدمة مفتعلة لتجاوز تلك الإجراءات والمتطلبات. ولو كانت إجراءات وزارة العمل أكثر فهما لمتطلبات التنمية واحتياجات أصحاب العمل، لما قام أحد بممارسة بيع التأشيرات أو تقديم خدمات لتسهيل الحصول على التأشيرات مقابل رسوم مالية. ولو كانت المؤسسات المالية تمارس آليات فاعلة في تقديم برامج التمويل، لما احتاج أحد إلى اللجوء لجهة ما تقوم بترتيب الدفاتر وهيكلة الوثائق للحصول على التمويل من تلك المؤسسات مقابل أتعاب غير مستحقة. كم من الجهد والمال يبذل في غير محله؟ وكم من المؤسسات الوهمية التي وجدت للاستفادة من هذه الأوضاع التي نشأت نتيجة لتلك الأنظمة والقوانين والإجراءات التي لا تقارب الواقع، ولا تعبر عن فهم عميق لمتطلبات التنمية الشاملة؟
قد يقول قائل: إن هذه التجارة مشروعة، وإنها على الأقل أفضل من مد اليد بالسؤال. قد يكون هذا الأمر صحيحا، ولكن مثل هذه الأنشطة الوهمية هي أنشطة مهدرة، ولا تصب في جهود التنمية، ولا تؤدي إلى خلق وظائف أو تنمية مهارات مهنية لدى ممارسيها. إن تطوير الأنظمة والقوانين سيؤدي بالضرورة إلى تفعيل جهود التنمية، وإلى خلق الوظائف التي يمكن أن تستوعب هؤلاء العاطلين الذين يمارسون تجارة الوهم. هذه الأموال التي تهدر للحصول على مزايا غير مستحقة هي أموال الوطن أولى بها، والجهد الذي يبذله تجار الوهم جهد مهدر الوطن أولى به.
إن قضية التنمية قضية يجب فهمها بالمنظور الشامل، فالتنمية التي تتعلق بالجانب الاقتصادي فقط هي تنمية قاصرة، والتركيز على جوانب البناء والإعمار والاستثمار لا يؤدي إلى خلق مجتمعات متوازنة، والمجتمعات التي يكون كل همها السعي إلى الكسب المادي لن يكتب لها التوازن والاستدامة. إن التنمية لأي مجتمع يجب أن تكون تنمية متوازنة في كل الجوانب، يجب أن تطول التنمية الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وغيرها من الجوانب. ما تفتقر إليه جهود التنمية في وطننا، تلك النظرة الشمولية لمفهوم التنمية. هذه النظرة التي تجعل المواطن لبنة في بناء مرصوص يقاوم عوامل الدهر، وتؤسس لنظرة توجد اعتبارا للمستقبل وليس للحاضر فقط، وتجعل هدف كل فرد المساهمة في بناء المجتمع، عوضا عن الانشغال بالسعي إلى تحقيق لقمة العيش بأي سبيل كان، وبأي تجارة كانت، ولو كانت تجارة الوهم والأحلام.