لماذا نلوم العولمة؟
خلال هذه الأيام العصيبة تذكرني العولمة بقصة القبيلة الأعرابية في زمن الجاهلية التي فرت من عصابة القتلة واختبأت مع أليفتها الوفية براقش في أحد الكهوف. لكن استمرار براقش في النباح لترهيب وتهديد القتلة أدى إلى فضح مخبأ أفراد القبيلة فانقضت عليهم العصابة وقتلتهم جميعا بما فيهم أليفتهم براقش التي جنت بغبائها على نفسها ومن معها.
مع الأسف الشديد بعض الدول الأعضاء في معقل العولمة لم تتعظ بقصة براقش، فاستغلت جائحة كورونا لتبالغ في استباحة أحكام النظام الدولي، وتستخدم أصواتها لترهيب باقي الأعضاء وتهديدهم بممارسة السياسات الحمائية على صادراتهم، وفرض العقوبات الأحادية على منتجاتهم. وهذا ما يؤدى حتما إلى تعالي أصوات مناهضي العولمة وسعيهم الدؤوب إلى اكتشاف خللها وفضح أحكامها القانونية.
من المؤكد أن العولمة لا تختلف كثيرا عن المنظمات الدولية الأخرى المماثلة، سواء كانت سياسية، أو علمية أو صحية أو اقتصادية، فجميعها يفتقر إلى البراءة في مظهرها، لكن معظمها يستغل غياب الدول عن دراسة قواعدها والتمرس في اتفاقياتها. الدول التي اكتسبت عضويتها وانخرطت في صياغة أحكامها تمكنت من تحقيق مكاسبها وتحييد عشوائياتها وتخفيف وطأة خسائرها. أما الدول التي اكتفت بمراقبة تيارات العولمة عن بعد أو الاعتماد على غيرها فخسرت قضاياها وجنت على مصير شعوبها.
عضوية العولمة مثلها مثل الالتحاق بجامعة عريقة تسن شروط القبول لكل من يتقدم إليها، وتوحد مناهج الدراسة لكل من يلتحق بها. ولن يستفيد من علومها سوى طلبتها المنتظمين في الدراسة، المواظبين على المشاركة الفعالة والمثابرة الطموحة، ليتخرج فيها خبراء الاقتصاد والهندسة والطب والعلوم بشهادات مميزة، مهـما كانت لغة الكلام أو عقيدة الأقلام، لتصبح هذه الشهادات مشاعة معولمة بين شعوب الأرض تعطي الحق لحاملها في ممارسـة العمل بمجال تخصصه في أي بقعة من بقاع المعمورة. وكذلك العولمة، هي جزء من العلم والمعرفة التي لا تخضع إلى لغة واحدة، أو تنتمي إلى جنسية وحيدة أو تعتمد على ثقافة محددة.
لذا، فإن الدول التي تأخرت في اكتساب عضوية العولمة واختارت عدم المشاركة في صياغة قواعدها وأحكامها، فرطت في مصالحها وخسرت قضاياها، لتصاب بعزيمة محبطة وحجة واهية، أدى جميعها إلى قناعتها المتناهية بنظرية المؤامرة المحاكة ضدها. وأصبح الهدف الأهم لهذه الدول اكتشاف مدبر مؤامرة العولمة والتنازع على تصفيته بافتراش الطرق وإطلاق الشعارات ونبذ المبادرات والانسحاب من الاتفاقات.
ولعل أفضل مثل على ذلك مجموعة الدول النامية التي تخلت عن حقوقها واستباحت مقوماتها وأضاعت خيراتها وتمادت في حقن شعوبها بمخدر تغيبها، لتحصد اليوم ثمار انحدار مستوى العلم والفكر والمعرفة والابتكار بين شعوبها، انتظارا لطفرة واعدة تنقذهم من كساد. ونظرا لغياب أو تغييب هذه الدول النامية عن ميدان العولمة، لجأت الدول المتقدمة إلى استغلال موقعها ووجودها لابتكار سياساتها الحمائية والترويج لمواصفاتها الفنية وابتداع عوائق حظر وارداتها، نجحت هذه الدول في تحقيق أهدافها الرامية إلى دعم صناعتها وتطوير زراعتها لتواجه منافسة الدول النامية، وبهذا تتألق أساليب وممارسات الدول المتقدمة المختبئة وراء ستار مجموعة من مبادئ وأحكام العولمة التي أسستها وصاغت قواعدها في أثناء غياب الدول النامية.
خلال الأزمة الاقتصادية الراهنة بسبب جائحة فيروس كورونا، سارعت الدول المتقدمة المؤسسة لأحكام العولمة باتخاذ حزمة من القرارات الفورية والحاسمة للحد من تدهور اقتصاداتها، لتشكل في مجملها خطوات أقل ما توصف في قواعد العولمة بأنها سياسات خاطئة. وقامت هذه الدول مستغلة غياب الدول النامية والمتغيبة عن مصالحها بتقديم الدعم المالي لشركاتها الفاشلة وإنقاذ مصارفها وخطوط طيرانها من الخسائر الفادحة ضاربة أحكام العولمة بعرض الحائط وتتنافى مع مبادئ اقتصاد السوق وقواعد التجارة الحرة. وتشابهت هذه الخطوات إلى حد كبير مع السياسات الاشتراكية التي كانت تمارسها روسيا الاتحادية والصين الشيوعية قبل انضمامهما إلى ميدان العولمة، وتنازلت عنها قصرا، لدى اكتساب عضويتها، نتيجة المطالب القانونية والالتزامات القاسية المفروضة عليها من قبل الدول الرأسمالية. ولسوء حظ الدول النامية الغائبة عن ميدان العولمة والجاهلة باتفاقياتها سارعت الدول المتقدمة المؤسسة للعولمة بفرض أحكامها على الدول الأخرى الساعية إلى الانضمام، ليبدأ عصر جديد من عدم الالتزام بمبدأ التكافؤ في الفرص بين الحقوق والواجبات. واليوم، أصبحت الدول المتقدمة تجاهر بتقريع الدول النامية وإدانتها لعدم التزامها بأحكام العولمة لتصبح العولمة في يومنا هذا رافدا من روافد المكاسب الاقتصادية لشعوب مختارة، ومرضا من أمراض العصر يفتك بمعطيات شعوب أخرى.
لقد حان الوقت كي تقتنع الدول النامية بأن غيابها عن ميدان العولمة شجع الدول المتقدمة المؤسسة لقواعد العولمة على استباحة أحكامها. كان من المفروض أن تقوم الدول النامية بمعاقبة الدول المتقدمة لتسببها في عام 2008 بسوء تنظيم أحكام الرهن العقاري وعدم تقنين القروض التمويلية وتماديها في ديونها السيادية لتستشري الفوضى في أسواقها المالية. وكان من واجب الدول النامية أن تحاسب الدول المتقدمة على تقديم الدعم المادي المحظور لصادراتها الزراعية الذي فاق 300 مليار دولار في العام الماضي حتى لا تحرم هذه الدول النامية من منافسة منتجات الدول المتقدمة الزراعية. بل كان من واجب الدول النامية أن تسعى جادة إلى فتح مزيد من أسواق الدول المتقدمة أمام صادراتها بدلا من عرقلة انسيابها عبر الحدود بالعوائق الفنية والضرائب التمييزية، ما يؤدي إلى تراجع صادرات الدول النامية الصناعية والزراعية ويجعلها أكثر اعتمادا على وارداتها من الدول المتقدمة.
يقال إن الرئيس الأمريكي خلال زيارته إحدى الدول العربية الإفريقية النامية سأل رئيسها المضيف عن احتياجاته لمواجهة أخطار أعدائه. وبدلا من طلبه فتح الأسواق الأمريكية أمام صادرات دولته، أجاب الرئيس المضيف مازحا: أحتاج إلى جنرالين فقط من جنرالات أمريكا، وهما "جنرال موتورز" و"جنرال إليكتريك". ضحك الرئيس الأمريكي وأمر بإهداء مضيفه الرئيس سيارة من إنتاج مصانع "جنرال موتورز" وثلاجة من منتجات شركة "جنرال إليكتريك".
ميدان العولمة لا يعتمد على تلقي الهبات والشرهات، بل يتطلب العمل الجاد المخلص للدفاع عن المصالح واقتناص المكاسب. لذا من واجب الدول النامية أن تدافع عن مصانعها ومزارعها ومنتجاتها مع إلزام الدول المتقدمة بتطبيق تعهداتها والتوقف عن تطبيق سياساتها الحمائية. ولتحقيق هذا الهدف لا بد من انخراط الدول النامية في معقل العولمة، والمشاركة الفعالة في صياغة أو تعديل أحكامها، ومقارعة الدول المتقدمة بدلا من الاعتماد على تلقي هباتها. وهذا لن يتأتى باللجوء إلى وسائل الرفض والمعارضة والانسحاب، وتبني أسلوب الزعيق والوعيد حتى لا تهلك الدول النامية كما هلكت براقش ومن معها زمن الجاهلية.