التكامل الاقتصادي العالمي في زمن كورونا
في الربع الأخير من القرن الـ20 أصبح الاقتصاد قائما على بناء العلاقات الاقتصادية، التي تتمثل في حرية التجارة وحرية حركة رؤوس الأموال. ومع بداية الألفية وسيطرة التحولات التكنولوجية والاتصال السريع، عاصر العالم التحول من العلاقات الاقتصادية إلى النظام الاقتصادي العالمي. إذا لم يكن البعد الاقتصادي العالمي حقيقة كاملة، فهو على الأقل حقيقة كامنة تحدد العلاقات الدولية. إن العالمية لا تسري فقط على النواحي التكنولوجية، بل تفرض نفسها أيضا على مختلف الأنشطة الصناعية، بحيث أصبحت السلع تعتمد على سلاسل التوريد العالمية المعقدة، وأصبحنا نعيش في عصر التكامل الدولي International integration، المبني على عالم أكثر تداخلا في علاقاته الاقتصادية، فلم يعد من الممكن لدولة أن تنعزل عما يجري فيه مهما علت مكانتها. إن هذا الترابط المتزايد بين الاقتصادات المختلفة، تبين جليا في وضعنا الحالي، فمع ارتفاع حالات الإصابة بالفيروس التاجي، يواجه الأطباء والممرضات وغيرهم من العاملين الطبيين في الخطوط الأمامية في أوروبا والولايات المتحدة وعديد من الدول، نقصا حادا في المعدات الطبية اللازمة.
وسلطت أزمة الفيروس التاجي الضوء على الجوانب السلبية للتكامل الدولي الواسع النطاق، ووفرت شرعية للحماية والقيود على التجارة العالمية، وأهمية توفير سلع وخدمات محلية. لقد أدركت الحكومات فجأة مخاطر الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية المعقدة، حيث سارعت من مختلف الاتجاهات إلى التركيز على إنتاج السلع الطبية والغذائية وتحويل عديد من المصانع المحلية إلى توفير مستلزمات هذه الفترة، وأدركت الدول أهمية تبني إجراءات اقتصادية أكثر محلية واعتماد سياسات تعمل على تشجيع المنتج الوطني.
قد يكون كثير من هذا الاضطراب مؤقتا، لكن من المرجح أن يكون لأزمة الفيروسات التاجية تأثير دائم، خاصة عندما تعزز الاتجاهات الأخرى التي تقوض التكامل الاقتصادي بالفعل. قد يوجه ضربة لسلسلة التوريد الدولية المجزأة، ويقلل من الحركة المفرطة للمسافرين من رجال الأعمال العالميين، ويوفر تشجيعا لتفضيل مزيد من الحمائية وضوابط على تنقل العمالة.
إن سلاسل التوريد العالمية المعقدة التي تتمحور حول الصين، وأصبح يعتمد عليها عديد من الاقتصادات، معرضة للخطر بشكل خاص. وفي زمن التكامل الاقتصادي الشامل والاعتماد وبناء نظام تجاري يعتمد تماما على الميزة النسبية للدول، تحولت الصناعة إلى توزيع سلاسل الإمداد من دول عديدة. فعلى سبيل المثال، مع انخفاض تكلفة الإنتاج في الصين في الأعوام الأخيرة، وتوافر اليد العاملة الرخيصة، تزايدت كثافة الإنتاج هناك، وارتفع الطلب على السلع "الوسيطة"، التي تدخل في عملية الإنتاج. وبمجرد أن خفت الحرب التجارية، ومع تدخل الفيروس التاجي، دفع الإغلاق الموسع لعديد من المصانع الصينية إلى انخفاض الصادرات 17 في المائة في الشهرين الأولين من العام مقارنة بالعام السابق، ما أدى إلى تعطيل إنتاج السيارات الأوروبية، وأجهزة iPhone، وغيرها من السلع الاستهلاكية، التي تدخل في إنتاجها سلع من الصين، ودفع أيضا الشركات إلى التدافع على البحث عن البدائل. ومع أنه لا تزال هناك مزايا عديدة للإنتاج في الصين، مثل الحجم والخدمات اللوجستية الفاعلة، لكن أزمة الفيروس التاجي يمكن أن تمثل نقطة تحول تدفع عديدا من الشركات إلى إعادة تشكيل سلاسل التوريد الخاصة بها والاستثمار في أنماط إنتاج أكثر مرونة وأكثر محلية في كثير من الأحيان. أحد الخيارات بالنسبة إلى السعودية، التحول إلى الأتمتة والاستثمار في الروبوتات والطباعة ثلاثية الأبعاد، والاعتماد على التكنولوجيا لرفع الإنتاج المحلي، وتدريب وتأهيل المواطنين لإدارة هذه التقنية.
إن اعتماد السلع على سلاسل التوريد العالمية المعقدة، وكون العمليات الإنتاجية أكثر تداخلا بين الدول، كل ذلك أدى إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد وإلى إعاقة التعامل مع الأزمة في عديد منها.
إن معالجة الأزمات الاقتصادية - عادة - تؤدي إلى مراجعة مسار النظام الاقتصادي السائد، فيتوقع أن يقوم عديد من الحكومات، ومؤسسات القطاع الخاص، والمؤثرين، بالتفكير في النظام وتصحيح مساره وما نتجت عنه من ظواهر سلبية صاحبت الأزمة. وكذلك ما حدث من تقطع في سلاسل التوريد وعجز في بعض السلع الاستراتيجية، سيدفع الدول إلى نوع من الاستقلالية، بالأخص في السلع الحيوية ودعم قطاع الإنتاج للسلع التي ترتبط مباشرة بحياة الفرد، وكذلك إنشاء مخزون وطني استراتيجي للإمدادات الطبية الحيوية لحالات الطوارئ الصحية العامة.