واشنطن وبرازيليا… هل تتحول التجارة إلى نزاع سياسي؟

في يوليو 2025، وجدت البرازيل نفسها في قلب أزمة جديدة بعدما قررت واشنطن رفع الرسوم الجمركية على معظم صادراتها بنسبة 50%. القرار الذي أعلنته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لم يكن مجرد أداة اقتصادية، بل جاء في سياق سياسي مشحون جعل التجارة تتحول من جسر تعاون إلى ساحة نزاع.
الآثار كانت فورية. في الولايات المتحدة ارتفعت أسعار القهوة واللحوم، وتضاعفت كلفة صناعة السيارات والطائرات بعد زيادة أسعار الفولاذ والألمنيوم البرازيلي. وفي البرازيل، شعر المزارعون والمنتجون أن أرضهم تسحب من تحت أقدامهم، فبدأوا يبحثون سريعاً عن أسواق بديلة في آسيا والهند. وبين هذا وذاك، كان المواطن البسيط هو الحلقة الأضعف: المستهلك الأمريكي الذي يدفع فاتورة أغلى، والمنتج البرازيلي الذي يخسر دخله وأسواقه.
لكن العالم لا ينتظر. بينما انشغلت واشنطن بقراراتها العقابية، تحركت قوى أخرى بهدوء وذكاء لملء الفراغ. كندا كانت من أوائل المستفيدين؛ فعززت تعاونها الزراعي والتجاري مع البرازيل، مقدمة نفسها شريكاً أكثر استقراراً ومرونة. أما الصين، فقد أدت دوراً أكبر وأكثر إستراتيجية. فخلال أسابيع قليلة، وافقت بكين على إدراج 183 شركة برازيلية جديدة ضمن قائمة المصدّرين المعتمدين للقهوة إلى السوق الصينية، في إشارة عملية إلى استعدادها لفتح أبوابها أمام ما يخسره المنتج البرازيلي في السوق الأمريكية.
لم تتوقف بكين عند القهوة. شركاتها وسّعت استثماراتها في قطاع المعادن النادرة، وهو المجال الذي يمثل العمود الفقري لصناعات المستقبل، من الطاقة النظيفة إلى التكنولوجيا المتقدمة. وفي الوقت نفسه، افتتحت شركة صينية مصنعاً للسيارات في ساو باولو بطاقة إنتاجية تصل إلى 50 ألف سيارة سنوياً، موفرة آلاف فرص العمل للبرازيل. وعلى المستوى الأوسع، عززت الصين علاقاتها مع البرازيل في إطار قمة الصين–سيلاك، حيث جرى توقيع اتفاقيات شملت الزراعة والطاقة والاقتصاد الرقمي.
أما الهند، فقد رأت بدورها فرصة لزيادة وارداتها من البرازيل، خصوصاً في مجالات الزراعة والطاقة، محاولة أن توازن بين علاقاتها التقليدية مع الغرب وانفتاحها المتزايد على شركاء الجنوب. وهكذا، فإن ما أرادته واشنطن عقاباً، تحوّل إلى مدخل لقوى أخرى لتوسيع نفوذها في أكبر اقتصاد بأمريكا الجنوبية.
في الداخل البرازيلي، حاول الرئيس لويز إيناسيو لولا دا سيلفا أن يحوّل الأزمة إلى قضية كرامة وطنية. وصف الرسوم الأمريكية بأنها ابتزاز غير مقبول، ورفع شكوى إلى منظمة التجارة العالمية. ورغم ما تعانيه المنظمة من ضعف في آلية فض النزاعات، فإن مجرد اللجوء إليها حمل رسالة سياسية: البرازيل تريد أن تُدار خلافاتها عبر القانون الدولي لا عبر إملاءات ثنائية.
الخلاصة أن الجميع خرج خاسراً بدرجات مختلفة. الولايات المتحدة فقدت جزءاً من نفوذها في أمريكا اللاتينية، والبرازيل واجهت ضغوطاً اقتصادية ثقيلة، والمواطن في البلدين دفع الفاتورة اليومية من دخله ولقمة عيشه. وحدهم المنافسون – كندا والصين والهند – هم الذين عرفوا كيف يستثمرون اللحظة، فملأوا الفراغ بخطوات محسوبة، ورسخوا حضورهم في منطقة كان يُنظر إليها طويلاً على أنها الساحة الخلفية للولايات المتحدة.
العلاقات الأميركية–البرازيلية صمدت عقوداً طويلة رغم الخلافات، لأنها كانت تستند إلى مصالح اقتصادية مشتركة. لكن هذا الأساس يبدو اليوم مهدداً. فإذا استمر استخدام التجارة كسلاح سياسي، فإن النتيجة لن تكون إلا مزيداً من الخسائر للطرفين، ومزيداً من المكاسب لآخرين. وحدها الشراكات الجديدة في مجالات المعادن النادرة، والطاقة النظيفة، والتجارة الرقمية، يمكن أن تعيد العلاقة إلى مسارها الطبيعي، بعيداً عن منطق العقاب.
التجارة في جوهرها ليست أداة للانتقام، بل وسيلة لرفع مستوى حياة الناس. وعندما تتحول إلى ساحة صراع، فإن من يظن نفسه معاقِباً قد يكتشف أنه خسر أكثر مما كسب، بينما المستفيد الحقيقي هو المنافس الذي استغل الفرصة، والمواطن الذي يدفع الثمن كل يوم.

مستشارة في الشؤون الدولية والإستراتيجيات العالمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي