عصر المتناقضات

نحن اليوم نعيش في عصر تحيط به المتناقضات من كل جانب، ففي الوقت الذي تسمع فيه عن خبر يعبر عن واقع معين، فإنك تقرأ في الجريدة خبرا آخر يناقض هذا الواقع تماماً، والشواهد على هذا الأمر كثيرة ومتعددة، فعلى سبيل المثال لو نظرنا إلى الوضع الاقتصادي فعلى الرغم من كل ما يعلن كل يوم عن الأزمة المالية العالمية، التي أثرت في معظم اقتصادات الدول يعلن في أحد المعارض الخليجية العقارية عن مشاريع بـ 1.3 تريليون دولار في الخليج، وعلى الرغم من وجود دراسة توضح ارتفاع رواتب الموظفين في الخليج بمعدل 11.4 في المائة، فإن هناك إحصائيات أخرى من منظمة العمل الدولية تشير إلى أن أكثر من 20 مليون شخص في العالم سيفقدون وظائفهم بنهاية عام 2009م، وعلى الرغم من تعدد الاجتماعات دولياً بشأن الأزمة المالية والتطمينات المعلنة يوماً بعد يوم بشأن الاقتصاد فإن الأسواق المالية في معظم دول العالم بصفة عامة وفي الخليج بصفة خاصة تواصل انهيارها حتى بلغ السوق السعودي 4264 نقطة وكسر سوقا دبي والبحرين حاجز 2000 نقطة .
وهناك تناقضات أخرى تحيط بنا أيضاً في مجالات مختلفة، ففي الوقت الذي تنتشر فيه المدارس من حولنا والجامعات، فإن المستوى العلمي للمخرجات في تدن، بل إن المخرجات في النهاية تغدو عبئاً، إذ لا تتوافر لهم فرص عمل تلائم التخصص الدراسي الذي قضوا فيه عدة سنوات وكلف الدولة مليارات الريالات، وفي الوقت الذي تخصص ميزانية الدولة مليارات الريالات لإنجاز عديد من الخدمات للمواطن بشكل مباشر وتعلن هذه المشاريع، فإنك تكاد لا تجد لهذا الأمر أثرا في أرض الواقع، فمشاريع المياه تعلن كل يوم وكثير من المساكن وسط المدن لا تصلها المياه إلا مرة كل شهرين أو ثلاثة أشهر وهم أسرى لمتعهدي الوايتات، وكذلك مشاريع الصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار وغيرها من الشبكات الأخرى، هناك توجيهات مباشرة لتسهيل المعاملات للمواطنين، ومع ذلك فإن المراجعة في كثير من المعاملات الحكومية أشبه ما يكون بكابوس ليلي يتمنى الإنسان أن يستيقظ منه بأسرع وقت ومع كل هذه المتناقضات، فإن دعوى مواجهة ثقافة الإحباط تنتشر لتخلق في نفوسنا الأمل الذي هو الملاذ الوحيد لنا لكي نعيش.
ومن شواهد هذا العصر أنه عصر يكرم فيه اللئيم ويؤتمن فيه ضعيف النفس، ويكافأ فيه المهمل ويرقى فيه الكسول، وهو عصر يحتفى فيه بأصحاب بعض المهن ويهمل العلماء والباحثون والمثقفون، وهو عصر ننادي فيه بالانفتاح والحوار وبعضنا منغلق على نفسه ولا يسمح لأبنائه بأن يتحاوروا معه، نحن نعيش في عصر فقدنا خلاله الثقة في كثير من الأشياء فلم نعد نصدق كثيرا من الأخبار، بل وصلت بنا الأمور في بعض الأحيان أن حتى ما نراه أمامنا أصبحنا نشك فيه بأنه قد يكون مظهراً من مظاهر التمثيل أو نموذجاً غير حقيقي، بل إن البعض وللأسف أثرت فيه مثل هذه الأمور ففقد الثقة حتى في نفسه بل فيمن حوله.
لقد أثر في عصرنا الحاضر هذا التناقض بشكل واضح، كما نشأ لدينا ما يسمى بثقافة التناقض، وأصبح الجيل ينشأ على أمور يجدها في المنزل ثم يخرج إلى الشارع فيجد ما يناقضها أو يسمع من والديه شيئا ثم يذهب إلى المدرسة فيسمع من المعلم ما هو مناقض لما سمعه من والديه، وهكذا تستمر سلسلة المتناقضات في حياتنا المعاصرة، وعلاج هذه الظاهرة يحتاج منا إلى جهد كبير وعمل متواصل يركز على تأكيد مفهوم الوضوح والشفافية والمكاشفة، مستندين في ذلك إلى دلائل حقيقية ووثائق معتمدة تعرض أمام المجتمع ويتم مناقشتها أمام الناس حتى تقف هذه السلسلة من مهازل المتناقضات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي