ألف تحية لك أيها المعلم
هناك قاعدة عامة تقول إن لكل مشكلة أسبابا جوهرية وأعراضا شكلية وظاهرية, ولكي نحصل على حلول ناجعة ومعالجات مؤثرة لا بد لنا ألا ننشغل فقط بالظاهر ونهمل الجوهر، فمن اللافت للانتباه أن معالجتنا لمشكلة التعليم في ضوء إجماع وطني على أهميتها وضرورة التصدي لها, لا تأتي بالحلول والأفكار التي تلامس أصل المشكلة وجوهرها، فمثلا ليس عندنا مشكلة أو ضعف في المقررات الدراسية كما وشكلا، ولكن أزمتنا في المحتوى وطريقة العرض, فما زلنا نعد المقررات الدراسية لكي تحفظ لا أن تفهم, وما زالت طريقتنا في التعليم هي التلقين وليس التفهيم. يقول لنا خبراء التعليم إن التعليم الحديث هو الذي يجمع بين المعرفة والمهارات, المعرفة التي يشترك الطالب نفسه في إنتاجها والحصول عليها وذلك من خلال تتبعها من مصادرها الأصلية والبحث عنها في حقولها وميادينها, والمهارات التي تجعل من الطالب إنسانا قادرا ذهنيا وشعوريا وسلوكيا وأن يجتهد في هضم ما يطرح عليه من معارف وأن ينشغل في توظيف هذه المعارف لتطوير نفسه والارتقاء بالواقع من حوله, ونحن ما زلنا ننظر إلى التعليم على أنه فقط تزويد الطالب بالمعلومات كما لا كيفا. كيف يتحول التعليم من أداة للارتقاء والتطوير إلى حالة منتجة للمشكلات والأزمات من غير أن يكون التعليم نفسه يعيش في مشكلة؟ لم نصل بعد إلى معالجة مؤثرة لأسبابها الرئيسة، فلا غرابة أن نجد الجهود المبذولة لتطوير التعليم، وعلى الرغم من الموارد الكبيرة المخصصة لها، تنتهي إلى نتائج متواضعة لا يحس الطالب بأثرها ولا يحصل المجتمع على ثمارها، فمثلا لا يمكن أن ننجح في تطوير التعليم ما لم نهتم بتطوير المعلم نفسه وما لم ننشغل بالقضايا التي ترفع شأن المعلم وتحسن ظروف عمله. لا يمكن أن ننتظر من المعلم أن يرتقي بعطائه، وأن يحسن أداءه، وأن يجتهد في ممارسة دوره التعليمي ونحن بعد لا نريد أن نضمن له بعضا من حقوقه المادية والمعنوية والتنظيمية.
فليعذرنا المعلم ونحن نحمله الجزء الأكبر من مسؤولية الإخفاق في التعليم، ونحن نتعامل معه بدونية ولا نحفظ له مقامه. كم هو مؤلم أن يجد المعلم المجتهد وصاحب الخبرة الطويلة نفسه وهو يعمل تحت إدارة شخص لا يعرف من فنون الإدارة والتعليم إلا التسلطن عليهم, والمعلمون يعرفون وذاك المدير نفسه يعلم أن الاعتبارات غير الإدارية وغير التعليمية هي التي ربما فضلته عليهم. وكيف للمعلم المجتهد أن يواصل اجتهاده وأن يبقي على عطائه ونحن نتعامل معه كرقم وظيفي له عدد من الحصص اليومية والأسبوعية, ويبقى هو بالحصص نفسها حتى ولو بقي يوما واحدا على تقاعده. كيف له أن يشعر بقيمته وهو لا تتاح له الفرصة أن ينقل خبرته لمن سيأتي بعده. قالها أحد مديري المدارس وهو على وشك أن يودع المدرسة بعد بلوغه الـ 60 من عمره, عندي الكثير مما تعلمته من أخطائي وخبرتي في التعامل مع الطلاب ومشكلاتهم والتفاهم مع المعلمين وتطوير إنتاجهم وكان بودي أن تتاح لي الفرصة في السنة الأخيرة أن أتفرغ لأنقل هذه الخبرة وهذه التجربة الطويلة التي خضتها لأكبر عدد من المعلمين المرشحين لإدارة المدارس, ولكن مع الأسف سأغادر منصبي ومعي خبرتي لتذهب معي، وعلى من يأتي بعدي أن يبدأ مشواره من الصفر مكررا الأخطاء نفسها معيدا أساليب وطرقا ربما قد ثبت فشلها.
عذرا أيها المعلم المجتهد وأنت تجد نفسك إلى جانب معلمين لا يفقهون في علومهم شيئا فقط لأننا في وقت سابق وتحت ظروف خاصة فتحنا المجال لكل من يريد ولا يريد أن يكون معلما متخصصا في اللغة العربية وهو لا يحسن الكتابة بها ولم يسمع أن جمع المؤنث السالم ينصب بالكسرة, ومتخصص في الرياضيات يصر على طلابه أن يرسموا المثلث المطلوب منهم كما هو يرسمه، لأنه لا يعلم أن المثلث الواحد له صور متعددة. كيف لهذا المعلم المجتهد أن يشعر أننا نقدر له اجتهاده ونحن نتمسك بأنظمة تعاقب هذا المعلم المجتهد؟ فنصاب الذي يدرس الرياضيات واللغة الإنجليزية والعلوم وغيرها، وهي تخصصات كلنا نعرف صعوبة دراستها وتدريسها والإعداد لها, هو نفس نصاب من يدرس مواد ومقررات هي بطبيعتها وليس تنقيصا لها لا تتطلب جهدا كبيرا لا في تعلمها ولا في تعليمها. كيف لمن يدرس الرياضيات والعلوم والإنجليزية أن يعطي في الحصة الخامسة والسادسة عطاءه نفسه في الحصة الأولى؟ وما ذنب الطلاب في الحصة السادسة ألا ينالوا نصيبهم من الدرس والشرح؟ لأن معلمهم قد أنهك واستنفذت طاقته في الحصص السابقة. ما ذنب معلم اللغة الإنجليزية، وهو الذي كان يعتقد أننا سنقدر له اختياره هذا التخصص الصعب، وأننا سنهتم به وبتطوير قدراته اللغوية، وأن نتيح له الدورات والبرامج المكثفة ليرتقي بتعليم هذه اللغة المهمة في وقتنا الحاضر لأبنائنا، بدل أن نرسلهم إلى المعاهد والمراكز الأهلية في الداخل والخارج ليبتدئوا في تعليمهم من الصفر, وأن ينتقل من مدرسة إلى أخرى ليستكمل نصابه من الحصص من غير أن نعطيه ما يعوضه عن هذا التنقل والتعب وعدم الاستقرار والمخاطرة في التنقل؟ أليست هذه عقوبة لاختياره مثل هذا التخصص، لأن غيره في غنى عن كل هذا؟!
كيف نريد للمعلم أن يشعر بقيمة نفسه وأن ينعكس هذا الشعور الإيجابي على عمله وعطائه، وأن يستطيع أن يعزز ثقة الطلاب بأنفسهم وتقديرهم لذاتهم، ونحن نحرص أشد الحرص ألا نصدر قرار التعين والمباشرة للمعلم المتخرج إلا بعد مضي أسبوع من العام الدراسي الجديد. لا تهمنا حاجة هذا المعلم إلى التأقلم مع المدرسة وإعداد نفسه لمباشرة التدريس في مقابل حرص في غير محله لتوفير شهر أو أسبوعين من راتبه. كيف له أن يشعر بالقيمة والتقدير ونحن نصمم مدارسنا ولا نحسب له مكانا خاصا به لينفرد بنفسه ويعد دروسه ويستقبل فيه طلابه؟ وهل في مدارسنا وحدات فنية مساعدة تساعد إدارة المدرسة والمعلم على إعداد متطلبات التدريس والأمور الإدارية، بدل أن نضع هذا الحمل على المعلم، وفي بعض الأحيان نكلف المعلم حتى بالنفقات المادية لهذه الأمور من شراء آلة تصوير وأوراق وحبر وغيرها؟
فعذرا أيها المعلم ونحن نطلب منك أن تصنع لنا المستقبل بإعداد وتعليم الأجيال المقبلة ونحن لا نفكر في مستقبلك, فماذا يا ترى قد أعددنا لك بعد التقاعد؟ بعد أن بح صوتك وانهارت قواك وتكلست مفاصلك وتقوس ظهرك لكثرة الوقوف والركوع أثناء الشرح؟ هل تفضلنا بتوفير نوادٍ خاصة بالمتقاعدين لنشعرهم أننا نقدر لهم جهودهم ولا ننسى لهم فضلهم؟ وهل للمعلم المتقاعد وغير المتقاعد من الأنظمة والترتيبات ما يسهل عليه مراجعة المستشفيات والاهتمام بصحته؟ أم أن هذا الأمر لا يعنينا لا من قريب ولا من بعيد؟ مسكين ذلك المعلم وهو يدعو عند الكعبة أن يوفق ابنه في امتحان الثانوية ويدخل برنامج "أرامكو"، لأنه تعب نفسيا وهو يراجع المستشفيات العامة.
من الضروري أن ننظر للمعلم على أنه الحلقة الأهم في عملية التعليم, وإذا لم نربح هذا المعلم بشخصه ونفسيته وشعوره تجاه نفسه وتقديره لذاته وإحساسه بتكريمنا وتقديرنا له، فإن الخسارة ستكون في أبنائنا، فمن حق المعلمين والمجتمع أن يستبشروا بمبادرة خادم الحرمين الشريفين لتطوير التعليم, فهذا البرنامج أريد له أن يرتقي بالتعليم ولن نرتقي بالتعليم إلا بارتقاء المعلم نفسه, والمعلم هو وحدة إنتاجية لا يتحسن أداؤها إلا بإدارة كلية لشؤونها, والكل يأمل أن كادر المعلمين الجديد سيأتي بهذه النظرة الكلية لتحسين وتطوير شأن المعلم، وغير ذلك سنكرر أنفسنا وسنعبر مرة أخرى عن عدم اهتمامنا لا بالمهم ولا بالأهم في تطوير العملية التعليمية.