خطير يا ذكير

[email protected]

.. ذكر الدكتور "مقبل بن صالح الذكير" أمورا حادة في مقاله الذي خرج قبل الأمس في السادس من رمضان بعنوان:"هل تصلح المكافآتُ التعليمَ الجامعي؟"، والأمر الخطير أنه أستاذ جامعي، وهو يقول إن مدرسي الجامعات لن ترضيهم لائحة المكافآت الجديدة.

نحن نعاني مشكلات كبرى في التعليم الجامعي، وكلما ذكر غيورٌ أمراً في جامعاتنا ومستوياتها حتى تُصُدِيَ له بالردِّ العاجي وكمية محسوبة من عباراتِ التجهيل وبهاراتِ التسفيه، ثم طبق تحليةٍ من ضعف الوطنية والانتماء.. ولكن الدكتور الذكير جاء بالخبر اليقين من قلب الجامعات، من محركيها الأُوَل، من نبضها، من إيقاعها، من روحها.. من مدرسيها. عدم رضا السلكِ التعليمي في الجامعات لن يعني أننا سنسير للتصدّرِ حتى لو أخرجنا الفرمانات والمعلقات التي لم تعد تثير حتى رأيا. الخطرُ، أو إنذار الخطرِ، جاء من مركز الإطفاءِ نفسِه.. إنه يحترق، والذي يحترق فيه قلوب الإطفائيين.. فظيع.

سُعِدتُ بالسماع عن اللائحةِ المرتقبة، وقرأت مقالاتٍ تشيد، إلا أن الذكيرَ جاء وكشف الغطاء أمام الجميع، وأعطى رأيا - قد يكون غير كامل الصحة، أو متسرع القراءة والاستنتاج - أقول (قد)، ولكنها لم تأتِ غاضبة، أو مشحونة بالظرف الشخصي، جاءت على صراحتها هادئة ومترابطة ومنطقية ومفندة.. لذا فمهما حاولت أن تخرج بنواقص فيها إلا أنك ستجزم بشجاعة كاتبها وغيرته على التعليم الجامعي في البلاد.. ورغم أنها كانت كافية لتبديد سعادتي، إلا أنها يجب أن تـُستعرَض بذاتِ الهدوءِ والشجاعة والمنطقية وإعادة الرأي مع دراسةٍ تنبؤية للنتائج المستقبلية بعد التطبيق، وهذا أمر نحتاج إليه بشدة ليس كثقافة عمل في خططنا الاستراتيجية, بل كأخلاق العمل.

يقول الدكتور الذكير، تقبل اللهُ صيامَه، في أول ملاحظة تنم عن استياء عام ومسبق قبل اللائحة الجديدة، إن رواتب أعضاء هيئة التدريس السعوديين هي "الأكثر تواضعا" بين رواتب أعضاء هيئات التدريس في الجامعات الخليجية.. الذي يقول هذا الكلام أستاذ في جامعة، لست أنا ولا شخص خارج الجامعة، فالكلامُ المرسلُ هنا تقريري لا يحتمل قياس الخطأ والصواب بل يؤخذ كإثباتِ حالة، ثم إن الدكتور الذكير ليس لغويا متخصصا، مع شهادتنا بفصاحته، حين يستخدم تعبير "الأكثر تواضعا"، ولم يستخدم "الأقل"، وهنا ينتأ العاملُ النفسي لا الأداة اللغوية.. لتفصح عن استياءٍ ظاهر جاء من "الأنا" غير الظاهرة.. وهو استياءٌ في محله، ولن يقنعني أحدٌ حتى ولا مدرسو الجامعات أنهم رغم أنهم الأقل دخلا يؤدون أعمالهم كما يجب أن تؤدَّى، فالعاملُ النفسي خارق وحارق.. ولذا، ففهمُ الحاجات الإنسانية الأساسية تكون الأرضية الصالحة لغرس شجرة الخطط الصالحة كي تطرح ثمراً صالحاً.. ونستنتج الآن أن ثمار الخطةِ الجامعية لدينا لم تطرح ثمراً صالحاً بقياس المدرسين، فلو كانوا ثمَراً أخذ حقـَّه في الضوءِ والرواءِ والغذاء، لما كان الاستياء..

ثم أمرٌ قلته يوما لوزيرنا الفاضل وزير التعليم في اجتماع محصور: "لم نعد نريد المستقبل، أعيدونا للماضي.."، وأخبرتهم عن مدرستي المتوسطة التي خرّجتني أطبع بالعربيةِ والإنجليزية ووضعتْ مكتبة كاملة تحت يدي لما أدرك المشرفُ ولـَعي بالقراءة.. من تخرجي في المتوسطة وأنا أكسب ثروة صغيرة، بقياسي، من السوق في العُطـَل المدرسية فالشركات توظفني بأجرٍ محترم، وكتبتُ للجرائد والمجلات وأنا في المتوسطة ومعظمها خارج البلاد. والدكتور الذكير يتوجعُ على نظام الانتخابات الذي كان سائدا في فترة مضت، ثم بادت.. فتردى الحالُ الجامعي، وبغياب الانتخاب تعم السلطة الفردية أو الانكشارية تماما كما في جيوش العثمانيين، ولكن لحماية مناطق النفوذ والمصالح، ولا نحتج أو نزعل فهذا ردٌ فيزيائي طبيعي لا حول لنا به ولا قوة، فعندما يغيب الانتخابُ تغيب قوة وأثر الأفراد، وعندما تكون فئة من الناس لا قوة لها ولا مصلحة يُتـَرَجـَّى منها، فلا بد - بفعل العوامل الطبيعية- أن تـُنسى، أو ألا يُكترث لها، أو أن تُسَيَّر.. وهذا ليس صحيا قط للصحة العامة.

من لم يقرأ مقالة الدكتور الذكير فعليه ألا يقرأها بعد الإفطار والمعدة مكتظة بدسم الأطباق، فقد تنقلب عليه معدته غثيانا.. وألاّ من يقرأ عن تأسيس لجانٍ وهو ممتلئ المعدة ثم لا يحس بحموضةٍ تصهر جدارَ معدتِه، فكيف ما أورده الدكتور من أن اللائحة تحتاج ضمن آلياتها ضبطا ووزنا وتنغيما وشرحا وتفسيرا ومنعا وتسييرا من قبل لجنة، ثم قف وخذ نفـََسا، فاللجنة لما تكون ببطن وزارةٍ واحدةٍ تـُحدِثُ من مآسي الهضم ما تحدثه تياراتُ أهويةِ خليج المكسيك، فكيف تكون الحالة الهضمية حين تكون اللجنة طريدة بين أنياب ثلاث وزارات؟! يا إلهي. هذا من أفلام الرعب. فدكتورنا يقول إن "تطبيق" اللائحة يحتاج إلى لجانٍ "دائمةٍ!" من عدةِ وزاراتٍ، وهي ثلاث ما شاء الله، التعليمُ العالي، والخدمة المدنية والمالية.. ولم يعدّ معها "وزارة اللجان الوطنية!"، على كل حال صفة "دائمة" للجان كافية لإحداث العِلل، ولو قرأها طبيبٌ من الأطباءِ بتطبيقه الإكلينيكي لشخّصها بلجانٍ مزمنة، فالأطباءُ يخافون الالتهابات المزمنة ولا يخشون الالتهابات الحادة، فالحادة مؤقتة، و يمكن علاجها.. المزمنة قد تكون مستعصية، وقاكم الله.

من هذه الروح الرمضانية التي تدعو للحلم وضبط النفس أرجو ألا تغضبوا علينا إن قلنا أن اللائحة تحمل شوكة في طواياها، إن صحّ كلامُ الذكير، لأنها أقلقت وأحبطت المعنيين بها.. ولن يضير كرامة أحد- أي والله- لو أعيد دراستها بتأن واعتبار وأخذ الآراء من مسح رأيٍ لمدرِّسي الجامعات.. أو أن يثبتوا لنا أن الذكير كتب مقالته وهو تحت تأثير جفافٍ شديدٍ في يوم رمضاني حار.

أم تـُرانا نطالب مخططي التعليم الجامعي أيضا بالسفر إلى .. الماضي!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي