السعادة .. الكل يبحث عنها والقليل يحصل عليها

تتوقع منظمة الصحة العالمية أن الاكتئاب والأمراض النفسية ستكون المصدر الأكبر لمرض الإنسان عام 2020, والاكتئاب ببساطة يعني شعور الإنسان بالكآبة والحزن وعدم التفاعل مع الأشياء المفرحة والشعور بالضيق حتى وإن كان يعيش في جنة, فالإنسان المكتئب يعيش في ظلمة نفسية وفي أجواء خانقة وفي حالة من الإحباط والنظرة الدونية للذات. فالاكتئاب يتحول بالإنسان إلى عالم الشقاء والحزن. وتشير الدراسات إلى أن شعوب الدول الاسكندنافية وهي الأكثر رفاهية من بين شعوب العالم, هي ربما الأقل سعادة إذا أخذنا بنسبة المنتحرين عندهم. فلا يمكن أن نفسر الانتحار لإنسان يعيش في مثل ما يعيشه الإنسان السويدي أو النرويجي أو الفنلندي من رفاه واستقرار مادي إلا أن حياته ممتلئة بكل شيء إلا السعادة. وفي المقابل نرى دراسة أخرى تضع الإنسان النيجيري كأسعد إنسان في العالم, وماذا عند هذا الإنسان من حياة ليكون أسعد من الآخرين؟ فالإنسان النيجيري يكابد الفقر على الرغم من أنه يعيش في دولة نفطية كبرى, ويعاني فوضى في حياته بسبب الفساد وسوء الخدمات المقدمة إليه, ويفتقد الاستقرار بسبب ما يعيشه المجتمع من انقسامات عرقية ودينية ومناطقية.
من الطبيعي أن يبحث الإنسان عن السعادة ولكن القليل يحصل عليها, لا لأنها خصصت لناس دون غيرهم, ولا لأنها كتبت للبعض وحرم منها الآخرون, ولكن السبب ببساطة هو أننا نريد أن نحصل على السعادة من دون أن نسير إليها. والسير المقصود هنا هو ليس السفر بقطع المسافات أو السير إليها بأجسادنا, إنما هي مسيرة نفسية وروحية وشعورية, فالسعادة هي صناعة روحية ونفسية بالدرجة الأولى وليست جسدية. فالجسد قد يستمتع بالأمور المادية والمحسوسة ولكن النفس والروح هما ما تشكلان هذا الاستمتاع وتجعلا منه سعادة وربما شقاء. ولما كانت السعادة هي من مهمات النفس والروح فطلبها والوصول إليها يستوجب منا اكتساب مهارات نفسية وقدرات روحية ويبقى للجسد دور مساعد وثانوي.
وقد يتصور البعض أن السعادة شأن شخصي ولا دخل للمجتمع فيها, فالسعيد سعيد لنفسه والشقي هو الوحيد المبتلى بشقائه, ولكن الحقيقة وهي التي تتأكد لنا يوميا أن السعيد هو مصدر خير لنفسه ولأهله ولمجتمعه, والشقي قنبلة موقوتة تنفجر في أي وقت لتدمر صاحبها وتلحق أضرارا مادية ومعنوية بمن حولها. والمفهوم الحديث لأمن المجتمع اليوم يؤكد أن أكبر الأخطار المحتملة على المجتمع مصدرها النفوس التي تشعر بالتعاسة والكآبة وعلى المجتمع أن يتتبع هذه النفوس ليساعدها على التخلص من هذه المشاعر المظلمة والمحفزة للإنسان للوقوع في دائرة الإضرار بنفسه وبغيره. وأشار كثير من الدراسات إلى أن الإنسان السعيد هو إنسان أقل عدوانية وأكثر تقبلا للتعاون مع الآخرين وأكثر قدرة على العطاء في عمله. وفي المقابل تتحول التعاسة والشقاء بالإنسان إلى شخصية عدوانية وتجعل منه أكثر تقبلا للاصطدام بمجتمعه وبمن حوله من أهله وأصحابه. والخوف من هذا الإنسان الشقي, الذي يبحث له ومن دون دراية عن شيء يخلصه من تعاسته ويقع ربما فريسة لأوهام وأباطيل توحي له بأن الانتقام من مجتمعه هو الكفيل بجلب السعادة له. ولكل إنسان شقي طرقه الخاصة في الانتقام من مجتمعه, وفي بعض الدول المتقدمة هناك اليوم مخبرون نفسيون (رجال مخابرات) لرصد مثل هؤلاء الناس وعدم تمكينهم من إلحاق الضرر بالناس والمجتمع.
ولا يحصل الإنسان على السعادة إلا بأن يجتهد في تدريب نفسه على مهارات وقدرات تصنع له الابتهاج والشعور بالراحة والسعادة, وهناك كثير من المهارات التي يذكرها الباحثون النفسيون والتي يجب على الإنسان أن يهتم بتعلمها واكتسابها, وبمقدار ما يتمكن منها ويرسخها في شخصيته يستطيع أن يجعل نفسه شخصا محترفا في طلب السعادة, والمسكين من لا تتاح له الفرصة لتعلم مثل هذه المهارات لأنه سيكون من سيجلب لنفسه التعاسة حتى ولو امتلك الظروف المناسبة للسعادة. فمن هذه المهارات, التي نذكرها بإيجاز:
1- دع الآخرين يشاركونك مشاعرك الإيجابية: عندما تشعر بالسعادة والفرح وتحس بأنك سعيد في هذه اللحظة أو هذا اليوم فلا تدع هذا الشعور لنفسك ووحدك بل حاول أن تنقله إلى غيرك وبالأخص من هم حولك. فالمحاولة في نقل المشاعر الإيجابية وإشاعة أجواء السعادة عند الآخرين تعزيز لثقتك بأنك سعيد وأن تأثر الآخرين بمشاعرك الإيجابية يطيل من عمر هذه اللحظات السعيدة التي تعيشها.
2 - الذاكرة السعيدة: علينا أن نحاول أن تكون لنا ذاكرة للحظات السعيدة التي مرت بنا, فوجود مثل هذه الذاكرة عند الإنسان وتنشيطها عند الحاجة تزيد من قوتنا في تجاوز اللحظات السلبية. فالذاكرة السعيدة وجودها وحجمها وسعتها هي التي تحدد طبيعة الأجواء التي تعيشها نفس الإنسان, فمن ليس عنده مثل هذه الذاكرة نجده يعيش الكآبة والتعاسة لأبسط الأمور وأتفه الأسباب, ولما كانت الحياة لا تخلو من هذه المنغصات البسيطة, فخلو ذاكرتنا يعني أننا أقرب إلى الشقاء من السعادة.
3- مباركة الإنسان لنفسه: السعادة ترتبط بالنجاح في إنجاز شيء إيجابي في الحياة, ومن حق أنفسنا علينا أن نبارك لها هذا النجاح. فتقدير الإنسان نفسه هو من المداخل المهمة للشعور بالسعادة, وهو أيضا دافع قوي لتحقيق المزيد من النجاح, الذي بدوره يعزز مشاعر السعادة عند الإنسان.
4 - تذكر النعم: على الإنسان أن يواجه المشاعر السلبية والإحساس بالكآبة بتذكر ما عنده من نعم, فشكر الله, سبحانه وتعالى, على ما عند الإنسان من نعم هو من أقوى الوسائل التي تنتشل الإنسان من حالة الشعور بالتعاسة والكآبة. فعندما يحثنا ديننا على شكر الله وممارسة هذه العبادة العظيمة لا لحاجة الله لشكرنا وإنما هو لنا للالتفات إلى ما عندنا من نعم كثيرة وبذكرها وبشكرها تسمو النفس على الصعاب وتنقشع عنها غيوم الحزن والمرارة.
5 - تعمد إظهار مظاهر السعادة: هذه دعوة لمقاومة المشاعر السلبية وذلك من خلال التمظهر بالسعادة وإن كانت غير موجودة في لحظتها. هذه المقاومة للمشاعر السلبية وذلك من خلال الابتسامة واختيار كلمات التفاؤل والشعور بالفرح كفيلة بأن تعيد النفس إلى الأجواء المريحة. علينا ألا نسرع بتصديق مشاعرنا السلبية بل مقاومتها حتى ولو كانت البداية هي مجرد ابتسامة مصطنعة.
6 - لتكن نفوسنا واسعة: لا يمكن للإنسان أن يكون سعيدا وعنده نفس ضيقة لا تتسع للحياة وما فيها من تنوع وتعدد. والنفس المتسعة لها قدرة أيضا على امتصاص الصعوبات وتجاوزها بشكل أسرع. والحصول على النفس الواسعة يتطلب منا أن نتعلم ثقافة الانفتاح والاسترخاء والوعي بطبيعة الحياة.
7 - الإمساك باللحظات السعيدة: كل إنسان تمر به لحظات سعيدة ولكن القليل من يمسك بهذه اللحظات ويحاول أن يبقيها لأطول فترة ممكنة في نفسه. والغالب أننا نبقى مع المشاعر السلبية أضعاف الزمن الذي نعيشه مع المشاعر الإيجابية والنتيجة بالتالي تكون الغلبة للسلب على الإيجاب وللكآبة على السعادة.
8 - التفكير المتشائم: هناك كثير من الناس يخنق لحظاته السعيدة بكثرة الأسئلة التي تطرد السعادة وتميتها في داخله, فعندما تعيش لحظة الفرح فعليك أن تطرد الأسئلة من نوع: هل أنا حقا إنسان سعيد أم أنها حالة طارئة وستذهب سريعا؟ وهل هذه السعادة تمهيد لقدوم لحظات صعبة؟ وهل ما عندي من سعادة شيء لا أستحقه وربما حصلت عليه مصادفة؟ علينا أن نعيش اللحظات السعيدة ونعمل على إطالتها وكلما طالت هذه اللحظات مهدت لقدوم أخرى مثلها.
وأخيرا, فالسعادة صناعة نفسية والماهر في هذه الصناعة هو ذلك الإنسان الذي يؤمن بأنه هو وليس غيره الأكثر قدرة على التأثير في نفسه, أما الذي يؤمن بأن الخارج والظروف المحيطة هي الأقوى فعليه ألا ينتظر السعادة وإن جاءته مصادفة لأنه قد أوكلها لغيره وغيره لن يكون أرحم بنفسه من نفسه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي