إنسان كالحمار يحمل أسفارا وكالكلب يلهث.. وكالقرد مقرود
تقول الحكايات الخرافية أن إنسانا رأى في المنام أن معدل عمر الإنسان كان ثلاثين عاما... ومعدل عمر (الحمار) أيضا ثلاثون عاما وكذلك كان معدل عمر (الكلب) ثلاثين عاما وأيضا كان معدل عمر (القرد) ثلاثين عاما.
ولأن الإنسان (طماع) فقد تمنى (طولة العمر) ولو على حساب الحمار والكلب والقرد، بحيث يأخذ عشرين سنة من عمر كل منها، وتحققت أمنيته فأصبح معدل عمره (تسعين عاما) وبعد التجارب والخبرات في حياته الجديدة بهذا العمر المديد.. اكتشف ما يلي: أن أسعد أيام عمره كانت الثلاثين الأولى- التي هي أصلا – عمره قبل أمنيته تلك .. تلك الثلاثين الأولى التي "ذكرها بالخير" كل العشاق وكل الشعراء وقالوا عنها الشيء الكثير .. نذكر منها قول المتنبي:
والمرء يأمل والحياة شهيةً والشيبُ أوقرُ والشبيبةُ أنزق
ولقد بكيت على الشباب ولمّتي مسودة ولماء وجهي رونق
وقوله أيضا:
أنْعِم ولُذْ فلا الأمور أواخر أبدا إذا كانت لهن أوائـــل
ما دمت من أرب الحسان فإنما روق (الشباب) عليك ظل زائل
وقول إبراهيم الحضرمي:
ما من فتى حل (الشباب به) إلا يحب عناق البدن الهيف
وقول الأخطل:
إن الشباب لمحمود بشاشته والشيب منصرف عنه ومصدود
وقول محمود الوراق:
كل نعيم وكل عيش قبل الثلاثين يستطاب
ولكن من سن الثلاثين لسن الخمسين يدخل في عمر (الحمار) الذي يكد ويحرث .. وهو كذلك يكد ويحرث على بيته وأهل بيته لا يكل ولا يمل ونادرا ما يرتاح .. متذكرا قول الشاعر الأعمى التطبلي
إذا جاوز المرء الثلاثين حجة فقد جاوز العمر الذي هو أفضل
ثم من بعد الخمسين إلى سن السبعين يدخل في عمر (الكلب) وتزداد نسبة السكر وترتفع نسبة الضغط ويتسارع لهاثه ويصبح غضوبا عضوضا لا يصبر عن أي هفوة ويرتفع صراخه (ونباحه) مهاوشا على الصغيرة والكبيرة متناسيا أيضا قول الشاعر:
فإن بلغ الخمسين فهو على شفا فما باله يعتل أو يتعــلل
وقول الشاعر أمية الداني الأندلسي:
أيحيي الدهر مني ما أماتـا ويرجع من شبابي ما أفاتا
وما بلغ الفتى (الخمسين) إلا ذوى غصن الصبا منه فماتا
أما بعد السبعين وحتى التسعين فيدخل في عمر (القرد) حيث يصبح الإنسان كسولا وضعيفا يشكو أوجاعا في الظهر والركبة أو يشكو مغوصا في الأمعاء والقولون أو ضعفا في المفاصل والعضلات وتنطفئ الرغبة عنده في مباهج الحياة بانطفاء قدراته المحرضة (للروحات والجيات والكشتات وحب الإجازات) وفي هذه المرحلة الأخيرة: تجده يفضل البقاء في البيت ليلا ونهارا حيث لا يثيره سفر ولا يمتعه سهر متنقلا في داره من غرفة التلفزيون نهارا إلى غرفة النوم ليلا ومن حمام إلى حمام... مثل القرد الذي يتنقل من شجرة إلى أخرى ومن غصن إلى آخر... متذكرا قول الشاعر:
ولا تُبله بعد الثمانين إنه يقول على حكم الزمان ويفعل
وقول عمر بن أبي ربيعة..
والغواني إذا رأينك كهلا كان فيهن عن هواك الْتواء
ومرددا قول ابن حمديس:
ما تريد الخود من شيخ غدا في مدى السبعين بالعمر وراح
وقوله أيضا
ومن يرحل إلى السبعين عاما فمعترك المنون له طريق
ومتذكرا قول أحمد شوقي:
أفي السبعين والدنيا تولت ولا يرجى سوى حسن الختام
ويشكو من قلة السمع متذكرا قول ابن الوردي:
إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
متمنيا ما تمناه أبو العتاهية:
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب
فيا ليت الشباب يعود يومـا فأخبره بما صنـع المشيب
ولكن أحد (العيارين) في هذا الزمان يقول لو رجع شبابه سيقول له (خبرية ثانية فعلت به أقسى مما صنع المشيب) – وحزر فزر-
وأخيرا يردد قول الشاعر ابن أبي حصينة عندما قال:
كان الشباب إلى هند يقربني وشاب رأسي فصار اليوم يقصيني
يا هند إن سواد الرأس يصلح للدنيا وإن بياض الرأس للديــن