المنفى وضحاياه

المنفى صور شتى، وأنواع متعددة، فغربتك عن نفسك منفى وتباعد عقلك منفى، وعزلتك بما تملك منفى، وتوحدك بوسائل التواصل وتوالي الطحن فيها منفى، وضمور علاقتك بالله منفى، وبرودة الصلة بالروح منفى، ما منا من أحد إلا وله نصيب من النفي ولكل منفى ضحاياه وكل نفس هي ضحية ما نفيت عنه وحرمت الإقامة فيه.
ليس هذا اتساعا في فهم الدلالة للنفي، بقدر ما هو تتبع النافي والمنفي عنه، من الصفات والأفعال والاختيارات، رصد الحرمان غير المحسوس إلا بعد تمام الحرمان، والوقوف على الفقد غير المدرك إلا بعد تمام الفقد، وعجز التدارك، بعد أن نفيت العقل، غالبتك أماني العجز، وأضعفت قلبك كثرة الرغائب.
نفينا العقل، فكنا ضحايا لصغار العقول، وتسيد الحضور مرذول الرجال والنساء في المعرفة، وضيق الأفق، وضعف الإدراك، كل شيوع هو فضيحة للكثرة، وعند شياع النقائص، هو فضيحة لشح الفضيلة، وكثرة أضداها، ومع شيوع العض على سيئات العباد هو نبأ عن مجتمع منفي عن عقله، وعن فطرته الأولى، وعن رشده المكتمل.
ونفينا قلوبنا، فلا تكاد تعرف إنسانا يحب نفسه ومن يعجز عن هذا الحب، يعجز عن حب غيره، على حد الاكتمال والتمام دون شرط، وبلا تطفيف في المكيال والميزان. القلوب نافية ومنفية، نفيناها عن حد التجرد في الصدق، وعن حد الإقبال المكتمل، فوجد كل واحد منا نفسه، مرتبك العاطفة، مظنون اليقين في إيمان قلبه، وصدق مشاعره.
أوحش الوحشة أن يشعر الإنسان بالوحدة وهو يعيش مع غيره، هذا النفي عن الذات، والنفي عما حولها، هذه الهجرة عن اليقين بأحد - أي أحد - ممن هم حولك، ومن هم معك، ومن هم دائما بالقرب منك، لأن الصلة هي بقرب الروح من الروح، على نحو التجانس، والتماثل، وليس بقرب الجسد في المسافة والمكان، النافي هو القلب، والغربة منه، والقرب فيه وبه.
ونحن اليوم بتنا غرباء جميعا إلا عن صلة من حمط وطين لازب، التحايا صورة للكل، والتعبير عن المشاعر نسخ ولصق، والصلة ليس فيها عين ترف، ولا إذن ترهف، ولا حضور يغمر بالغذق أو يعد به.
منفيون فيما نحمل من أجهزة تجعلنا نتواصل مع كل أحد إلا هذا الذي هو معنا الآن، كأننا لا نحتمل بعضنا بعضا أكثر من دقائق معدودات، تضيق النفس بعدها فنبحث عن ملاذ، وسبيل خروج.
نحن منفيون جميعا، وكل نفي له ضحاياه، وفي كل يوم تسقط من أنفسنا صفة رقيقة نبيلة طاهرة أتعبها السير والطي والضنى، فبتنا ضحايا لنقص حاضر في كل شيء، في العقل الناقص عند التدبير، وفي الحب الناقص عند الاصطفاء، وفي شتات الحضور الذي لا يحملنا إلى مستقره في نضج الاكتمال وتمام الرغبة في بعضنا بعضا.
إننا منفيون وغرباء طيلة الوقت، وعلى الدوام، وحين نعود إلى الله في نهاية هذا الشتات التام، سندرك أننا كنا طيلة الوقت وعلى الدوام قلوبنا نائية وبعيدة وقصية ومنفية نافية عن لحظة حضور مكتمل به وفيه ومعه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي