وقف الجامعة
سيبقى يوم الأحد الموافق 9 شوال 1428هـ من بين الأيام التي تختزنها ذاكرة المملكة العربية السعودية والعديد من المؤسسات العلمية حول العالم. إذ شهد ذلك اليوم انطلاقة مشروع حضاري عملاق لخدمة الإنسانية عندما وضع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز, حجر الأساس لبنيان جامعة عالمية للعلوم والتقنية في "ثول" على ساحل البحر الأحمر. لقد كنت أحد الذين تشرفوا بالمشاركة في تلك المناسبة مع مئات آخرين قدموا من أطراف المملكة ومن أصقاع الأرض ليشهدوا مولد فجر جديد في أرض الجزيرة, حيث انتابتني يومئذ مشاعر غامرة من السعادة المفعمة بالامتنان لله سبحانه وتعالى عندما رأيت علم بلادي خفاقاً على رأس السارية التي أقيمت في ساحة الحفل تعانقه نسمات عذبة من البحر وهو ما يستبشر به أهل البحر ورواده.
إن مشروع جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية يحمل فرصاً لا حدود لها للإبداع, إذ تهيأت للجامعة مصادر دعم قلما توافرت لمؤسسة علمية أخرى في العصر الحديث. وليس المقصود بالدعم هنا المال فحسب بل أيضاً القيادة السياسية الواعية لخادم الحرمين الشريفين الذي تبنى رؤية شاملة تستشرف مستقبل هذه الأمة من منظور تاريخي أثبتته تجارب الشعوب فحواه أن البحث والابتكار هما المحرك الأساس لأي تقدم اقتصادي يمكن الارتكاز عليه لبناء تنمية مستدامة. ولعل من حسن حظ الجامعة أن تأتي انطلاقتها في ظروف مالية جيدة تزيح عن كاهلها هاجساً طالما أقلق مؤسسات التعليم العالي ولاسيما تلك التي تنفق بسخاء على الأبحاث والمختبرات.
وكنت قد كتبت في مقال سابق (الاقتصادية في 26/8/1427هـ) عن التكلفة الباهظة لمؤسسات التعليم العالي وما تمثله تلك التكلفة من عقبة كبيرة أمام الكثير من الدول ما يجهض عادة رسالة تلك المؤسسات ويقلصّ دورها إلى مجرد فصول دراسية باهتة تكرّس ضياع المجتمع وتزيد بؤسه. لذا لم يعد مستغرباً اليوم أن يفرد رؤساء الجامعات في العالم الجزء الأكبر من وقتهم للبحث عن مصادر تمويل خارج إطار المصادر التقليدية كتلك التي ترصدها الحكومة في ميزانيتها السنوية أو ما تدره الرسوم الدراسية.
إن برامج البحث العلمي والابتكار مكلفة بطبيعتها ولا تؤتي أكلها في الغالب إلا بعد سنوات طويلة من عمل مضن وموارد مالية كافية تضعها في منأى عن التقلبات المعتادة في اعتمادات الميزانية العامة للحكومات والروتين التي تخضع له تلك الاعتمادات. هذه الحقائق أدركتها الجامعات المرموقة في العالم في وقت مبكر منذ تأسيسها، كما أدركت أن المزايا التي تنشدها وفي مقدمتها بيئة عمل مستقرة لن تتحقق سوى عن طريق آليـة "الوقف" وما يدره من ريع على نحو يكاد يكون مستمراً ودائماً لمئات السنين. لقد أصبحت الأوقاف في تلك الجامعات تشكل مصدراً رئيساً لمواردها المالية، ومن أشهر الأمثلة على ذلك جامعة " هارفارد " التي تبلغ قيمة محفظتها الوقفية أكثر من (30) مليار دولار تحقق منها ريعاً سنوياً يزيد على 25 في المائة ما يضعها في المرتبة الأولى بين الجامعات في العالم في هذا المضمار. وبالطبع لا يقتصر نادي الجامعات الغنية على هارفارد وحدها بل هناك كوكبة من الجامعات الأخرى تزيد ثروة كل منها على (10) مليارات دولار.
إن آلية "الوقف" عرفها المجتمع الإسلامي منذ عهد النبوة والخلفاء الراشدين، إذ حفل التاريخ الإسلامي بنماذج مضيئة من الصدقات الجارية التي تم وقفها للنفع العام كخدمة الحرمين الشريفين، مشاريع المياه، التعليم، دور الإيواء، بناء المصحات، وغيرها. ومن ثم فإن المبادرة التي أعلنها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز, في حفل وضع حجر أساس الجامعة بإنشاء وقف لها ليست منسجمة فحسب مع التجارب الأخرى الناجحة لمؤسسات البحث العلمي في العالم بل إنها إحياء لسنة حسنة يفخر بها المسلمون. والجميل في آلية الوقف أن مزاياها توفر للجامعة استقلالية في قراراتها بما يخدم رسالتها كساحة للعلماء والباحثين للانطلاق نحو آفاق جديدة دون قيود أو تدخل من هنا وهناك.
لقد سبق وأن ذكرت في مقال نشرته "الاقتصادية" يوم حفل وضع حجر الأساس للجامعة، أنه ليس من المبالغة القول إنه كلما تمعن المرء في فكرة إنشائها تبدت له ملامح وآفاق جديدة من الإبداع في ذلك المشروع الحضاري الكبير، لعل أبرز ملامح ذلك الإبداع مبادرة خادم الحرمين الشريفين بإنشاء وقف لها للصرف عليها من ريعه.
ومن المؤمل أن تشكل تلك المبادرة الملكية الكريمة نموذجاً يمكن محاكاته في بعض من جامعات المملكة الأخرى القائمة حالياً أو تلك التي ستنشأ مستقبلاً بتخصيص أوقاف لها إن كانت أموالاً سائلة، عقارات، أو حصصا من محفظة صندوق الاستثمارات العامة في الأسهم المحلية (صندوق الأجيال) ينفق من ريعها لتمويل البرامج الجادة في مجالات البحث العلمي والتقنية.
إن آلية "الوقف" تشكل مدخلاً جيداً لجامعاتنا للنهوض بمستوى أداء رسالتها وممارسة قدر كاف من المرونة في تحديد أولوياتها.