متى ينزل الخليجيون إلى ساحات العمل؟

الهبوط الحاد في أسعار النفط حفّز أصحاب الشأن في الخليج العربي إلى مراجعة أنفسهم وسياساتهم الاقتصادية.
وهناك بوادر تغير يحسها حتى الإنسان العادي في الشارع. الكل تقريبا بدأ يفقه أن الأمور لن تسير كالسابق.
بيد أن التغيير، في رأيي المتواضع، لا سيما المتمثل في زيادة أسعار بعض الخدمات العامة والسلع منها المحروقات، وخفض الموازنة والتخصيصات، لن يكون مجديا.
ولا أظن أن مشاريع الخصخصة التي تخطط لها بعض دول مجلس التعاون سيكون لها وقع كبير على الاقتصاد.
وحتى لو أرادت هذه الدول تقليل الاعتماد على النفط والتحول عن الريع إلى نشاطات اقتصادية أخرى، فلا أظن أن يكون ذلك مجديا على المدى البعيد.
الحل الأمثل في نظري يكمن في التخلص من التأثير غير الحميد الذي غرسه نظام الريع على الدورة الاقتصادية. هناك شرخ في الاقتصاد لا سيما سوق العمالة وإن لم يتم تداركه أخشى أن يكون له تبعات خطيرة على مستقبل هذه الدول واقتصادها.
بصريح العبارة ـــ ورغم قساوتها ــــ أقول إن الناس في الخليج لا تشتغل. وهذا يعني أنها لا تنتج. وإن اشتغلت فإن ذلك يكون في حلقات لا تدر ربحا للمجتمع. وبمعنى آخر فإن وجودها في سوق العمل يصبح عبئا على الاقتصاد.
قد يواجهني قرائي الكرام بالقول إنني ذهبت بعيدا هذه المرة وإن الأمور ليست كما أراها وإن الزاوية التي أنظر فيها ضيقة جدا.
ولكنني أكاديمي وصحافي. لماذا أضع مصداقيتي على المحك في التطرق إلى موضوع شائك والولوج في باب قد أفقد فيه ثقة القراء بالعمود هذا وصاحبه؟
السبب لأنني أكاديمي. الأكاديمية تفقد قيمتها وتجعل من صاحبها أضحوكة إن فقد المصداقية وإن تكلم دون سند وأرقام وإحصاءات موثقة أو كتب إرضاء لميوله أو تطرق إلى أحداث وقضايا ومسائل لا يستطيع البرهنة على الفرضية التي يثيرها.
الفرضية التي لدي تقول إن الخليجيين لم ينزلوا إلى ساحة العمل بعد.
آن الأوان أن يشمروا عن سواعدهم ويطلقوا العنان لطاقاتهم المكبوتة غير المستغلة استغلالا صحيحا.
وللبرهنة على الفرضية هذه سأجري مقارنة ومقاربة بين القوى العاملة في الخليج ونظيرتها في دول شمال أوروبا (الاسكندنافية) وهي فنلندا والنرويج والدنمارك وآيسلندا والسويد مستندا إلى أرقام عام 2015 وهي متوافرة على الشبكة العنكبوتية.
والبرهان هذا أظن قد يجعل القارئ أن يضرب عشرة على رأسه لوطأة ــــ أو ربما لا نجافي إن قلنا مأساة ـــ سوق العمل في الدول الخليجية.
الهدف من البرهان هو شحذ الهمم ودعوة أصحاب الشأن إلى اتخاذ قرارات جريئة لتغير واقع سوق العمالة في الخليج. بقاؤه كما هو يشكل خطرا قد يكون وجوديا على هذه الدول.
لم يحس الناس بهذا الخطر لأن الريع ـــ واردات النفط ـــ كان بإمكانها التغطية على الواقع هذا كي يظهر وكأنه أمر عادي وهو ليس كذلك.
سوق العمل يجب أن تتغير كي تؤتي القرارات الاقتصادية أكلها. وإن لم تتغير أخشى أنها لن تنفع.
يبلغ تعداد القوى العاملة في الخليج ــــ الأفراد القادرين على العمل ـــ نحو 22 مليون شخص. أكثر من نصفهم وفي بعض البلدان غالبيتهم الساحقة أجانب.
يبلغ تعداد العمالة في الدول الاسكندنافية نحو 11 مليون شخص، أي نحو نصف تعداد العمال في الدول الخليجية.
الناتج القومي الإجمالي ــــ بسعر الصرف ــــ لـ 11 مليون اسكندنافي يبلغ 1591 مليار دولار.
الناتج القومي الإجمالي ــــ بسعر الصرف ـــ لـ 22 مليون عامل في الخليج يبلغ 1347 مليار دولار.
كيف نقرأ هذه الأرقام وكيف نقارن ونقارب بينها؟
تقول هذه الأرقام إن العمالة الأجنبية تشكل ما لا يقل عن 50 في المائة من القوى العاملة في الخليج العربي. إن قارنا هذا مع الدول الاسكندنافية فمعناه أن الأجانب في هذه الدول ــــ نحو 11 مليون شخص ـــ هم الذين يعملون فقط لأن ما يقابلهم في الجانب الآخر هم 11 مليون مواطن اسكندنافي الذين يشكلون القوى العاملة في هذه البلدان.
فماذا يعمل الـ 11 مليون مواطن خليجي وهو تعداد القوى العاملة من المواطنين الخليجيين؟
ولهذا يستطيع الاسكندنافيون تقديم كل الخدمات العامة بأنفسهم وملء الشواغر بأنفسهم في كل الحلقات الاقتصادية الخدمية والزراعية والصناعية والتوظيفية أو غيرها ولا يستطيع الخليجيون.
لن أتحدث عن السلبيات الكثيرة الأخرى التي ترافق وجود العمالة الأجنبية بهذه الأعداد الكبيرة، ولكنني أقول: ألم يحن الوقت للشباب الخليجي أن ينزل إلى ساحة العمل ويبدأ بالإنتاج وتقديم الخدمات شأنه شأن الشباب الاسكندنافي؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي