المتاجرة باللاجئين السوريين
لن أزيد خردلة لو تحدثت عن مأساة اللاجئين السوريين. سورية بلد مزقته الحرب التي يزيد سعارها ولهيبها يوما بعد آخر.
بقياسات الحرب العالمية الأولى والثانية، نكون في سورية أمام حرب عالمية ثالثة. قد لا نبالغ إن قلنا إن الحرب هناك تشترك فيها دول وربما جيوش وأسلحة قد توازي ما دار رحاه في الحرب العالمية الثانية.
بالطبع، كان في الإمكان تجنب كل هذا الدمار لو أن أصحاب الشأن في هذا البلد والممسكون بزمام الأمور وضعوا مصلحة شعبهم ووطنهم قبل مصالحهم الفئوية الضيقة وتشبثهم بالحكم.
التشبث بالحكم ووضع المصلحة الخاصة فوق المصلحة العامة سمة بارزة في بلدان الشرق الأوسط. في هذه المنطقة بالذات ليس هناك خط يفصل بين ما هو ملك خاص وملك عام. أصحاب الشأن في الغالب يستأثرون بالخاص والعام.
وإن نظر صاحب الشأن إلى المصلحة العامة، مصلحة الشعب المغلوب على أمره، ضمن نطاق مصلحته الشخصية والفئوية والمناطقية الضيقة، اقرأ على ذاك البلد السلام، كما نقرأ اليوم السلام على سورية وبلدان عربية أخرى.
من نجا حتى الآن قد يأتيه الدور إن لم يغير ما بنفسه. "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد: 11). وحتى يغير هؤلاء ما بأنفسهم، أخشى أن الشرق الأوسط سيحرق نفسه بنفسه.
شعب بملايينه في سورية هائم على وجهه. وهو ليس الشعب الوحيد في الشرق الأوسط لا قرار ولا استقرار له. شعوب أخرى هذا حالها، بيد أن مأساة الشعب السوري فاقت كل ما يمكن تحمله أو تصوره.
الناس الأبرياء ـــ وهم بالملايين ـــ هم آخر من يأتي على البال. الكتب السماوية توصي بالمسكين وعابر السبيل والمضطهدين والمهاجرين، إلا أن العناية بهم وإيواءهم يأتي في آخر قائمة الأولويات ـــ هذا إن كان لهم ذكر فيها.
توسمنا خيرا ونحن نلاحظ هبّة غربية من ألمانيا وفرنسا والدول الاسكندنافية وهي تفتح أبوابها وأذرعها لإيواء اللاجئين السوريين.
ولكن هذه الثورة والهيجان "الإنساني" سرعان ما خبا. الدول الأوروبية هذه ضاقت ذرعا ببضع آلاف من اللاجئين وبدأت تبني السدود والأسيجة لوقف "زحفهم" و"غزوهم" لبلدان الرخاء الاقتصادي وبلدان الحرية والتسامح والديمقراطية.
لم تسدّ أبوابها وحسب، لقد بدأت تتاجر باللاجئين السوريين. صار اللاجئون السوريون ورقة ضغط ولعبة سياسية وكأنهم قنابل الهاون والصواريخ وبراميل متفجرة والطائرات الحربية التي تدك هذا البلد بلا رحمة لما يقرب من خمس سنين.
أخذ المسؤولون الكبار في الدول الغنية يجوبون الشرق الأوسط لا سيما دول جوار سورية والدول الأوروبية الأقل تطورا. غايتهم عقد صفقات حول اللاجئين السوريين وكأنهم بضاعة تباع وتشترى.
هذه الدول بدأت تفتح خزائنها وتقدم تنازلات كي تقنع دولا أخرى أقل شأنا ونموا ومكانة منها أن تبني أسيجة وأسوارا حول معسكرات اللاجئين السوريين. هذه الدول على استعداد القيام بما يطلبه أي بلد آخر إن وافق على منع السوريين من القدوم إلى بلدانهم.
وأخذت تظهر على السطح في الصحافة الغربية تسريبات لما تقول إنه اتفاقيات "قذرة" تعقدها هذه الدول فيما بينها وبين دول أخرى غايتها حبس اللاجئين في معسكراتهم - وهم بالملايين - وعدم السماح لهم بمغادرتها.
بعض الدول أخذت تطبق هذه السياسات. آلاف اللاجئين يهيمون على وجوههم مشيا على الأقدام في أوروبا، وكل دولة يصلونها، تقذفهم في وجه دولة أضعف منها.
وأي دولة تبدي استعدادا للتعاون مع النهج الجديد لأصحاب المال والسلطة والجاه في أوروبا، يغدقون عليها العطايا والوعود.
والمسؤولون الكبار في حركة مكوكية لعقد اتفاقيات يصبح بموجبها أمرا شبه المستحيل تنقل اللاجئ السوري من بلد إلى آخر.
الدول هذه متطورة تكنولوجيا وكل ما تريده أن يتم تسجيل اللاجئين إلكترونيا وبأجهزة أكثر حداثة مما نلحظ عند السفر بالطائرة مثلا.
الدول هذه تريد، حتى وإن تمكن لاجئ من الانفلات أو الهرب من معسكره الذي سيتحول إلى سجن رهيب، أن يكون بالإمكان متابعته وإلقاء القبض عليه وإعادته إلى الدولة التي لجأ إليها أول مرة ـــ أي دولة.
ليس هذا فقط، لقد بدأت بعض الدول وضع اللاجئين السوريين في معسكرات خاصة ولا تبت في أمرهم حتى يتبين ما ستقود إليه الجهود الحثيثة التي يبذلها كبار المسؤولين الغربيين. في نيتهم عقد اتفاقيات تسمح لهم بإعادة من وصل إلى دولهم.
تعيدهم إلى أين؟ ليس إلى وطنهم الأصلي بل إلى معسكراتهم "سجنهم في الدول المجاورة".
يفعلون كل هذا ولا يحركون ساكنا لإنهاء الحرب والظلم والطغيان في سورية. على العكس، يؤججون الحرب، لا بل ينظرون وبصدر منشرح إلى النار التي تلتهم هذا البلد، النار التي في النهاية لن تبقي على شيء.
استمرار الحرب الطاحنة في هذا البلد، في نظرهم، يقع ضمن منافعهم الاستراتيجية، لأنها تلتهم ما يرونه عدوا لهم. يريدونها أن تستمر حتى يتعب أو يخسر أو ربما ينتهي ويتحطم الجميع، وهم لم يجازفوا بجندي واحد في أرض المعركة.