الاستثمار الدولي بين حماية رأس المال وتقييد السيادة
منذ ستينيات القرن الماضي، بدأت الدول توقّع اتفاقيات استثمارية دولية بهدف رئيسي: طمأنة المستثمر الأجنبي وحماية أمواله من المخاطر السياسية والقانونية. تضمّنت هذه الاتفاقيات بنوداً مثل الحماية من نزع الملكية، وضمان المعاملة العادلة، وحرية تحويل الأرباح. ومع الوقت، انتشرت هذه الاتفاقيات حتى تجاوز عددها اليوم 3,300 اتفاقية، بينها نحو 2,500 معاهدة ثنائية للاستثمار.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل ما زالت هذه الاتفاقيات تؤدي دورها في تشجيع الاستثمار، أم أنها أصبحت عبئاً على الدول، تقيد قدرتها على سنّ سياسات تخدم المصلحة العامة؟
الأحداث الأخيرة تقدم صورة واضحة عن هذا التناقض. ففي بريطانيا، قررت الحكومة إيقاف مشروع منجم للفحم في كمبريا لأسباب بيئية، فما كان من المستثمرين إلا أن رفعوا دعوى استناداً إلى اتفاقية استثمارية، ما قد يحمّل دافعي الضرائب تكاليف ضخمة. وفي ألمانيا، هددت شركة روسال الروسية بالتحكيم ضد برلين، مدعية أن العقوبات المفروضة عليها تشكل "نزع ملكية غير مشروع". أما في أستراليا، فقد دخل على الخط الملياردير كليف بالمر، المعروف باستثماراته في التعدين ومؤسس شركة Mineralogy. بالمر حاول عبر شركة مسجلة في سنغافورة المطالبة بتعويضات بلغت 305 مليارات دولار بعد أن منعته الحكومة من تطوير أحد المناجم. لكن هيئة التحكيم رفضت الدعوى معتبرة أنه لا تنطبق عليه صفة "المستثمر الأجنبي"، وألزمته بدفع التكاليف. هذه القضايا الثلاث، رغم اختلاف ظروفها، تكشف الوجه المزدوج للاتفاقيات الاستثمارية: أداة لجذب الاستثمار من جهة، ومصدر نزاعات مكلفة من جهة أخرى.
الأرقام تعطي بعداً أوضح. فبحسب الأونكتاد، تجاوز عدد قضايا التحكيم الاستثماري 1,400 قضية حتى عام 2025. بعض هذه القضايا انتهى بتعويضات بمليارات الدولارات، أي بما يعادل نسباً مؤثرة من ميزانيات الصحة أو التعليم في دول نامية. كما تُقدَّر تكلفة الدفاع عن قضية واحدة في المتوسط بنحو 8 ملايين دولار، وهو عبء لا تستطيع كثير من الحكومات تحمله بسهولة.
ورغم هذه التحديات، بدأت بعض الاتفاقيات الجديدة تظهر اتجاهاً مغايراً. فمثلاً، اتفاقية الاتحاد الأوروبي–نيوزيلندا لعام 2023 وبروتوكول الاستثمار في إطار منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (2022) لم تقتصر على الحماية التقليدية للمستثمر، بل أدرجت التزامات تتعلق بالحوكمة البيئية والاجتماعية، والمساواة، والتنمية المستدامة. هذه الصياغات تعكس محاولة لتجاوز الفجوة بين حماية رأس المال وحماية السياسات العامة.
إلى جانب ذلك، تتحرك منظمات دولية لإصلاح النظام القائم. فالأمم المتحدة عبر فريق العمل الثالث في الأونسيترال (UNCITRAL Working Group III)، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، تقودان مناقشات نشطة لإيجاد بدائل أكثر عدلاً وشفافية. بعض المقترحات تشمل إنشاء محكمة استثمار دولية دائمة، بدلاً من الاعتماد على هيئات تحكيم خاصة، أو إدماج معايير الاستدامة بشكل أوضح في نصوص الاتفاقيات. وهذا يضع العالم أمام خيارات متباينة: الإبقاء على النظام كما هو، أو إدخال إصلاحات جزئية، أو إعادة صياغته بالكامل.
كما أن عدداً من الدول، مثل جنوب إفريقيا والهند وإندونيسيا، شرعت في مراجعة أو إلغاء بعض اتفاقياتها القديمة لصياغة نماذج جديدة توازن بين جذب الاستثمار وحماية السيادة الوطنية. في المقابل، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تحديث اتفاقياته عبر تضمين التزامات أكثر وضوحاً تجاه البيئة والتنمية المستدامة.
المشهد اليوم يوحي بأن الاتفاقيات الاستثمارية الدولية تقف أمام منعطف حقيقي. فهي ما زالت أداة مهمة لضمان الثقة بين المستثمرين والدول، لكنها في الوقت نفسه تثير أسئلة صعبة حول تكلفتها وحدودها. وبين الحماية التي يحتاجها المستثمر، والحرية التي تحتاجها الدولة لتنظيم اقتصادها ومجتمعها، يستمر النقاش مفتوحاً. وربما تكون السنوات المقبلة هي التي تحدد إن كانت هذه الاتفاقيات ستظل كما هي، أو ستُعاد صياغتها لتواكب تحديات القرن الحادي والعشرين.
مستشار في الشؤون الدولية والعلاقات الدولية