إطلاق الشركات الجديدة والبيانات القياسية
تُسلّط بيانات مكتب التعداد الضوء على مرحلة تكوين الأفكار، ترصد بيانات مكتب إحصاءات العمل مرحلة تنفيذها. وكذلك مدفوعات الأجور لقياس إطلاق الشركات الجديدة والسؤال الجوهري في سياق دراسة الابتكار هو ما إذا كانت الفكرة تكتسب أهميتها فقط حينما تُترجم إلى وظائف، أم أن ميلادها بحد ذاته هو أساس الابتكار.
كذلك، تشير بيانات مكتب إحصاءات العمل إلى زيادة حادة في نشاط ريادة الأعمال عبر الولايات المتحدة خلال الفترة 2010-2020 مقارنة بالعقد السابق
الديناميكية الاقتصادية
قبل الجائحة، انفردت الولايات الغربية بنصيب كبير من أنشطة ريادة الأعمال. غير أن هذا الوضع ربما يتغير في الوقت الحالي. فبيانات مكتب التعداد تشير إلى أن 7 من بين أكبر 10 ولايات من حيث نشاط الشركات البادئة بين عامي 2010 و2025 تقع في الجنوب، كما توضح الخريطة.
والسؤال هنا هو ما إذا كان هذا النشاط يسهم بدور كبير في نمو الوظائف. وتشير البحوث التي نشرها أخيرا الاحتياطي الفيدرالي إلى أن مساهمة الموجة الأخيرة من الشركات البادئة في نمو الوظائف ستكون أقل على الأرجح مقارنة بالارتفاعات السابقة. فوِفقا للاحتياطي الفيدرالي، شكلت الشركات البادئة الوليدة عالية النمو أقل من 6% من التوظيف في 2024، مقابل نحو 10% في 1985. وغالبا ما تكون الشركات البادئة القائمة على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كثيفة الاستخدام لرأس المال والمهارات، وبالتالي تتطلب عددا أقل من العمال.
ويتجلى ارتفاع مستويات الإنتاجية والأجور في العمالة الأعلى مهارة؛ في حين تؤدي الأتمتة إلى تراجع أجور العاملين الذين يتولون المهام الروتينية. والديناميكية الاقتصادية ــ أي مساهمة الشركات الجديدة في تعزيز النمو الاقتصادي ــ قد لا تنبع بالضرورة من الشركات البادئة الكبيرة التي توظف أعدادا ضخمة من العمال، بقدر ما تعكس زيادة عدد الشركات البادئة التي يؤدي كل منها إلى ظهور مزيد من هذه الشركات بفضل تعزيز ثقافة المخاطرة في المنطقة.
وقد يُساعد ذلك على تفسير سبب عدم ارتباط الكثافة السكانية بنشاط ريادة الأعمال. فمن بين الولايات الـ10 الأولى في نشاط الشركات البادئة، تراوح كثافة السكان في ولايتي نيو مكسيكو ووايومينغ بين 5 و20 شخصا لكل ميل مربع. وفي المقابل، تعد فلوريدا وتكساس، وهما أيضا من بين الولايات الـ10 الأولى، من أكثر الولايات اكتظاظا بالسكان، إذ تراوح كثافتهما السكانية بين 150 و400 شخص لكل ميل مربع.
وعلاوة على ذلك، غالبا ما تستحوذ الشركات الكبرى على أفكار مؤسسي الشركات البادئة، ما يحد من الحاجة إلى النمو المستقل. فعلى سبيل المثال، استحوذت شركة مايكروسوفت على شركة "Inflection AI" بالكامل في 2024، بما في ذلك جميع موظفيها الـ70، وكذلك على شركة "Nuance Communications" في 2022، وهي شركة رائدة في مجال التعرف على الكلام والذكاء الاصطناعي التحاوري.
الاستثمار المُوَجَّه
وقد أثبت المنهج الاستثماري المدروس الذي تتبعه الولايات الجنوبية الشرقية – والمتمثل في تحرير شيكات بمبالغ أصغر وتوجيهها بعناية إلى المؤسسين الواعدين - أنه أكثر قدرة على الصمود في مواجهة ارتفاع معدلات تخارج الشركات البادئة.
وتشكل الصناعة التحويلية والبحث محركين رئيسيين. فتكتلات صناعة السيارات، وفي مقدمتها شركة مرسيدس-بنز الولايات المتحدة الأمريكية وشركة بورش أمريكا الشمالية تتخذ مقرات لها في منطقة أتلانتا بولاية جورجيا. وأدى وجود تكتل البحوث الممتد على مساحة 7 آلاف فدان في حديقة "مثلث البحوث" بمدينة رالي-دورهام بولاية كارولاينا الشمالية، وحديقة كومينغز للبحوث في مدينة هانتسفيل بولاية ألاباما - ثاني أكبر حديقة بحوث، التي تضم حاضنات أعمال وأكبر 500 شركة وفق تصنيف مجلة فورتشن – إلى آثار إيجابية على مناخ الأعمال في المنطقتين. ومعظم هذه الشركات البادئة تدمج تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في عملياتها الاعتيادية باعتبارها إحدى أدواتها العامة، وهو ما تؤكده الصفقات التي بلغت قيمتها عدة مليارات من الدولارات، والتي أبرمتها شركة الذكاء الاصطناعي OpenAI مع شركة الألعاب Epic Games وشركة التكنولوجيا المالية OneTrust في 2020، وكلاهما يقع مقره في الجنوب الشرقي.
ووايومينغ حالة فريدة من نوعها؛ فالولاية لا تفرض ضريبة دخل على الأفراد أو الشركات، وتتميز بتدني تكاليف تأسيس الشركات ورسوم التسجيل، ولا تشترط الحصول على الجنسية أو الإقامة. وتطبق الولاية إجراءات صارمة لحماية الخصوصية، حيث تحظر مُشاركة السجلات التجارية أو الشخصية مع أي جهات خارجية. وفي 2023، وافق مجلس ولاية وايومينغ المصرفي على إنشاء بنك للعملات المشفرة. لذلك، ليس من المستغرب أن ينظر رواد الأعمال إلى وايومينغ بوصفها خيارا مثاليا للشركات البادئة.
لا تزال هناك تحديات، من بينها الحاجة إلى توفير طاقة منخفضة التكلفة وموارد أخرى لتشغيل مراكز البيانات وغيرها من المرافق كثيفة الاستهلاك للطاقة. ويمكن لصناع السياسات القيام بدور حيوي في هذ الشأن من خلال السياسات الصناعية الموجهة ــ الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والأطر التنظيمية التي تعزز الابتكار وتحد من معوقات الدخول أمام المشاريع الجديدة في هذه المناطق.
عضو في هيئة التدريس -قسم الاقتصاد- جامعة برينستون وخبير في صندوق النقد