العملات الرقمية للبنوك المركزية .. هل تهدد النظام النقدي العالمي؟

أصبح مصطلح "العملات الرقمية للبنوك المركزية" (CBDC) حديث الاقتصاديين وصنّاع القرار في مختلف أنحاء العالم. هذه العملات ليست مثل (بيتكوين) أو غيرها من العملات المشفرة التي نشأت خارج النظام المالي، بل هي عملات رسمية تصدر وتدار مباشرة من البنوك المركزية، ما يجعلها شكلاً جديدًا كليًا من النقود قد يغير موازين الاقتصاد العالمي.
العملة الرقمية للبنك المركزي هي ببساطة نسخة إلكترونية من العملة الوطنية، لكنها لا تحتاج إلى وسطاء مثل البنوك التجارية أو شركات التحويل. تخيّل أن راتبك الشهري يودع مباشرة في محفظة رقمية تابعة للبنك المركزي، ويمكنك استخدامه فورًا للدفع أو التحويل لأي شخص في أي مكان، دون رسوم وبسرعة فائقة.
من أمثلة العملات الرقمية للبنوك المركزية في الصين (اليوان الرقمي) وهو الأكثر تقدمًا. يجري اختباره على نطاق واسع منذ عام 2020 مع ملايين المستخدمين، يهدف إلى تعزيز سيادة الرنمينبي محليًا ودوليًا. وفي السويد تدرس الدولة إصدار (e-Krona) بسبب الانخفاض الحاد في استخدام النقد في البلاد.
يعتبر البنك المركزي الأوروبي اليورو الرقمي
ECB) ) في مرحلة البحث والتجربة. ويعمل بنك إنجلترا في المملكة المتحدة على دراسة إصدار الجنيه الإسترليني الرقمي Britcoin)). كما تعمل البحرين والسعودية على مشروع ( Aber) وهو مشروع مشترك لاستكشاف استخدام تقنية CBDC للمدفوعات عبر الحدود. في الإمارات العربية المتحدة أطلق البنك المركزي برنامجًا تجريبيًا للـ (Digital Dirham) .

هناك عدة أسباب تدفع الحكومات والبنوك المركزية لاستكشاف هذا المجال: تشمل تسريع المدفوعات فالتحويلات المالية قد تستغرق أيامًا وتكلّف رسومًا عالية، بينما حركة العملات الرقمية الرسمية يمكن أن تتم في ثوانٍ وبأقل تكلفة، والشمول المالي حيث أن مليارات الأشخاص حول العالم لا يملكون حسابات مصرفية.
تمنح العملات الرقمية هؤلاء وسيلة آمنة وسهلة للمشاركة في الاقتصاد، إضافة إلى التحكم الاقتصادي فمن خلال إصدار النقود رقميًا، تملك الحكومات قدرة أكبر على تتبع التدفقات المالية ومكافحة غسيل الأموال والتهرب الضريبي.
البعد الأهم لهذه الثورة ليس داخليًا فقط بل عالميا، فالصين " مثلًا " أطلقت مشروع "اليوان الرقمي" بهدف تعزيز مكانتها في التجارة الدولية وتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي. فإذا نجحت هذه الخطوة ، فقد نشهد تحولًا تدريجيًا في موازين القوى المالية العالمية، وهو ما يثير قلق واشنطن وحلفائها.
من جهة أخرى، دول مثل السعودية والإمارات دخلت في تجارب مشتركة لإطلاق عملات رقمية مرتبطة بالتحويلات عبر الحدود، خصوصًا في ظل التحويلات المالية الضخمة للعمالة الوافدة. هذا النوع من المشاريع قد يقلل التكاليف بشكل هائل ويزيد على كفاءة الأنظمة المصرفية.
رغم مزايا العملات الرقمية للبنوك المركزية فإنها ترتبط بعدد من المخاطر، حيث يتراجع دور البنوك التجارية فإذا كان بمقدور الأفراد أن يحتفظوا بأموالهم مباشرة لدى البنك المركزي، فقد يقلّ الطلب على البنوك التقليدية، وهذا يهدد استقرار النظام المالي.
هناك حاجة ماسة للخصوصية والرقابة فالمخاوف كبيرة من أن تتحول هذه العملات إلى أداة لمراقبة كل حركة مالية يقوم بها المواطنون. كما أن مخاطر الأمن السيبراني ستكون ماثلة ومتنامية فأي هجوم إلكتروني على أنظمة العملة الرقمية قد يسبب فوضى اقتصادية غير مسبوقة.
يبقى السؤال الأهم: هل ستقود العملات الرقمية للبنوك المركزية إلى ثورة مالية تعيد تشكيل النظام العالمي، أم أنها مجرد أداة جديدة للبنوك المركزية لتعزيز سيطرتها؟
الاحتمالان قائمان، لكن المؤكد أن النظام النقدي كما نعرفه اليوم على وشك أن يتغير. وإذا كان القرن العشرين هو عصر الدولار الورقي، فقد يكون القرن الحادي والعشرون عصر النقود الرقمية الرسمية.

كاتب اقتصادي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي