مكاتب العائلة رافعة اقتصادية لجذب الثروات

من خلف أبواب مغلقة ومكاتب لا تحمل لافتات، تتحرك مليارات الدولارات عبر العالم بصمت، تديرها كيانات خاصة تعرف بـ"المكاتب العائلية". هذه الكيانات التي بدأت كحلول بسيطة لإدارة أموال العائلات الثرية، تحولت خلال القرن الـ21 إلى صناديق استثمارية ينافس بعضها الصناديق السيادية، وأصبحت أحد اللاعبين الكبار في الخريطة الاستثمارية الدولية. فالمكاتب العائلية ليست فقط حاضنة للثروات، بل هي محرك اقتصادي يربط بين رؤوس الأموال الكبيرة وفرص النمو المستدام حول العالم.

وخلال العقدين الأخيرين، تضاعف عددها ليصل إلى أكثر من 8,000 مكتب، مع توقعات بتجاوز 10,000 مكتب عالميًا بحلول 2030، تدير أصولًا تقدَّر بأكثر من 6 تريليونات دولار، أي ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لاقتصادات كبرى.

ويعود جانب كبير من جاذبيتها إلى قدرتها على الاستثمار طويل الأمد بعيدًا عن ضغوط النتائج الفصلية التي تواجهها الشركات المدرجة، ما يمنحها مرونة استثنائية في اقتناص الفرص الإستراتيجية في قطاعات مثل التكنولوجيا النظيفة، والرعاية الصحية، والبنية التحتية، والأسواق الناشئة. هذا النموذج يجعلها نقطة جذب طبيعية لرواد الأعمال، وصناديق الاستثمار الجريء، وحتى الحكومات الباحثة عن شراكات مستقرة، إذ يمكن للمكتب العائلي ضخ استثمارات ضخمة في مشروع واحد، مع تقديم الخبرة الإدارية والإستراتيجية، وليس رأس المال فقط.

وفي ظل سعي الاقتصادات الوطنية إلى تنويع مصادر دخلها، برزت المكاتب العائلية كجسر بين الثروات الخاصة العالمية وفرص الاستثمار المحلية، قادرة على تحريك عجلة الابتكار، وخلق الوظائف، وتعزيز نمو الشركات الصغيرة والمتوسطة. وقد أثبتت التجارب أن العلاقة طردية بين الحوافز التشريعية الممنوحة للمكاتب العائلية وبين مساهمتها الاقتصادية، كما في سنغافورة التي تضاعف عدد مكاتبها العائلية 5 مرات خلال 5 سنوات، متجاوزًا 2,000 مكتب، جذبت رؤوس أموال آسيوية وغربية، وأسهمت في ازدهار خدمات إدارة الثروات، وتمويل الشركات الناشئة، وتنويع الاقتصاد، ووتوليد وظائف نوعية.

كما سجلت الإمارات خلال السنوات الأخيرة نموًا ملحوظًا في عدد المكاتب العائلية المسجلة، مدعومًا بإصلاحات تشريعية وخيارات هيكلية جاذبة، بهدف استقطاب نحو 46% من إجمالي الثروات المالية في المنطقة بحلول 2026، وهو ما انعكس في تعزيز صناعة إدارة الثروات وجذب استثمارات مباشرة في التكنولوجيا والعقارات والطاقة.

هذه الديناميكية تجعل المكاتب العائلية قوة اقتصادية عابرة للحدود، قادرة على إعادة تشكيل ملامح الاستثمار العالمي، وربط الفرص برؤوس الأموال في إطار يحافظ على الاستدامة ويضمن نمو الأصول عبر الأجيال. وتشير التوقعات إلى أن عدد أصحاب الثروات الضخمة في الشرق الأوسط سينمو بنسبة 24.6% خلال 5 سنوات فقط، مع تصدر السعودية لهذا النمو بدعم من التحولات الاقتصادية وإعادة توزيع الثروة.

تسيطر العائلات التجارية على 95% من الشركات الصغيرة والمتوسطة في السعودية، التي تمثل أكثر من 90% من حجم القطاع الخاص، وتسهم بنحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي، وتوفر أكثر من نصف الوظائف. ومع ذلك، لا تزال رحلة تحول هذه العائلات إلى مكاتب عائلية احترافية تحتاج إلى دعم تشريعي يضع إطارًا متكاملًا، ويمنح خيارات مرنة للتحول، ويهيئ بيئة عمل أشبه بالمناطق الاقتصادية الخاصة، بما في ذلك تسوية النزاعات داخليًا بعيدًا عن الأضواء.

في المقابل، فإن استمرار الاعتماد على نموذج المجالس العائلية التقليدية لم يعد يلبي احتياجات أصحاب الثروات الكبرى، ما يدفع بعضهم لتأسيس مكاتبهم في ملاذات ضريبية أو مناطق خاصة أكثر مرونة، أو لإدراج شركاتهم في الأسواق المالية دون أسس مؤسسية متينة، وهو ما قد يفتح الباب أمام نزاعات داخلية أو محاولات سيطرة خارجية تهدد استقرار الشركة وأداءها على المدى الطويل.

أما المكاتب العائلية، فتبقى كيانات مغلقة تدير الأصول بسرية عالية، وتحافظ على استقلالية القرار، ما يجعلها خيارًا مفضلًا للعائلات الكبرى مقارنة بالشركات القابضة المدرجة.

إن بناء بيئة تشريعية متكاملة، مدعومة بحوافز تنافسية وآليات فاعلة لتسوية النزاعات، سيحوّل المكاتب العائلية إلى رافد رئيسي لاستقطاب الثروات، وتعزيز استقرار الاقتصاد الوطني، ورفع تنافسيته عالميًا. ومع تزايد حضور المكاتب العائلية المحلية والدولية، يتضاعف الأثر الإيجابي ليترجم النمو الاقتصادي إلى إرث مستدام للأجيال.


مستشار قانوني

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي