الألماس المُصنّع بالمختبر يختبر قوة الأسواق

كلّ شيء كانت قيمته الاقتصادية يوماً مرتبطة بالندرة أصبح اليوم وفيراً


أسعار الألماس الطبيعي تراجعت بما يصل إلى 40% مع انتشار الألماس المصنَّع


قد يسلك الألماس الطبيعي مسار حقائب "بيركين" ليقتصر على النخبة ويبتعد عن تزيين كلّ خاتم خطوبة

 


أحب الأسواق، وأعشق الألماس. فلعلّ ذلك يفسر أزمتي الوجودية الراهنة، إذ دفعني الانتشار الواسع للألماس المُصنَّع في المختبرات إلى التشكيك في سحر السوق المتمثل في قدرتها على إضفاء قيمة على أي شيء تقريباً.

وليس الألماس وحده من فقد هذه الهالة، فكلّ ما كانت قيمته الاقتصادية تقوم على الندرة أصبح فجأة وفيراً، من الحقائب الفاخرة إلى الموسيقى، حتى العملات. فما الذي يجعل أي شيء يستحق قيمته اليوم؟

للألماس مكانة راسخة في قلبي، لا لكوني أهوى الجواهر فحسب، بل أيضاً كاقتصادية. فعندما يبدأ الاقتصاديون الشباب في استكشاف مفهوم القيمة وأسباب تفاوت الأسعار، يعودون دوماً إلى المرجع الأول: آدم سميث، الذي علّق على كون الألماس أغلى من الماء، إذ كتب "لا شيء أنفع من الماء، ومع ذلك لا يكاد يشتري شيئاً، بينما الألماس، رغم ندرة استخداماته، تمكن مبادلته بكمية كبيرة من السلع الأخرى".


أزمة وفرة


كانت ندرة الألماس، مقرونة ببراعة تسويقه، وراء تحوّله إلى سوق ضخمة عالية القيمة. ومع الزمن، غدا هذا العنصر النادر من الكربون، الذي تحتاج الأرض ملايين السنين لتكوينه، أيقونة للحب الأبدي والالتزام.

أما اليوم، فأصبح بالإمكان إنتاج الألماس في المختبر خلال فترة وجيزة وبكميات لا متناهية. ومع ذلك، يظلّ بلا قيمة عند إعادة بيعه، ولا يحمل رمزية الحب الأبدي. لكن حاول أن تقنع بذلك امرأة حصلت للتوّ على خاتم خطوبة مثالي زنة ثلاثة قيراط، أو الرجل الذي قدمه لها بسعر يقل 90% عن "الأصلي". في المقابل، تراجعت أسعار الألماس الطبيعي الذي لطالما ارتبط بالحفاظ على القيمة، بما يصل إلى 40%.

وهنا تعود بعض الأسئلة لتطرح نفسها: إذا أصبح المعروض من الألماس غير محدود، ماذا يحلّ بقيمته؟ وهل ما زالت السوق قادرة على تسعيره؟ وبصورة أوسع، كيف ستتعامل الأسواق مع أزمة الوفرة هذه؟

في المحصلة، بات كل شيء في الولايات المتحدة، باستثناء المساكن، متاحاً عند الطلب وبالكمية التي تريدها. فكل ما أُنتج من موسيقى على مرّ التاريخ صار في متناول يدك على هاتفك، مقابل اشتراك شهري لا يتجاوز ثمن ألبوم واحد في الماضي. والمعلومات التي كانت يوماً حكراً على قلة من المؤسسات الإعلامية، باتت اليوم متاحة من أي مصدر تختاره ومن أي زاوية تخطر في بالك. وكما هي الحال في عالم الموسيقى، لا أحد يعرف أي نموذج أعمال قادر على الصمود في المجال الإعلامي، إذ تتبدل معايير القيمة بين لحظة وأخرى.

حتى "الذكاء"، أثمن الموارد وأكثرها ندرة، أصبح وفيراً بفضل سحر الذكاء الاصطناعي القادر على استحضار لاعبي شطرنج محترفين وخبراء مال (أو نسخ عنهم على الأقل) وتقديم مهاراتهم مجاناً. فما أثر ذلك في قيمة الفكر البشري والمعرفة والقدرة على التمييز؟

في نهاية المطاف، ستجد السوق طريقها للتكيّف، أو هكذا أُطمئن نفسي على الأقل. فالأطعمة وكثير من السلع الاستهلاكية التي نتعامل معها اليوم كسلع سريعة الاستبدال، كانت يوماً نادرة. وعندما فقدت ندرتها، تحسّنت أحوالنا. صحيح أن التحوّل كان فوضوياً، لكن السوق نجحت في جعل ما يرغب به الناس أكثر وفرة. فسواء كنت تميل إلى رقائق بطاطس فاخرة أو عشاء في مطعم راقٍ، كلاهما متاح مقابل ثمن، وقد يكون أحدهما جديراً فعلاً بما يُدفع مقابله.


نموذج "هيرميس"

 

السلع الاستهلاكية تُصنَّف هي الأخرى وفق مستويات الجودة، وربما يسلك الألماس المسار نفسه. فحقائب "بيركين" المقلدة، مثلاً، متوافرة بكثرة ويمكن شراؤها اليوم من أي متجر "والمارت"، حيث يُباع أيضاً الألماس المُصنَّع في المختبرات. وبالنسبة لشخص غير خبير، قد تبدو هذه النسخ مطابقة للأصل: مصنوعة من الجلد، مظهرها أنيق، ويمكن أن تحمل الأغراض. ومع ذلك، يبقى هناك من يسعى لاقتناء "بيركين" أصلية، رغم قائمة الانتظار التي تمتد لسنوات، مدفوعاً بسحرها الخاص أو بقيمتها في سوق إعادة البيع، ومستعداً لدفع 15 ألف دولار للحصول عليها.

نجحت "هيرميس" في صنع ندرة من قلب الوفرة، إذ تتحكم في معروض حقائب "بيركين" وتطرح عدداً محدوداً فقط للبيع، ما يبقي الطلب مرتفعاً ويدفع العملاء للتوجّه نحو منتجاتها الأخرى أيضاً. أما دور الأزياء الفاخرة الأخرى التي تكافح المنتجات المقلدة، فتنتهج أسلوباً أقل صرامة في انتقاء العملاء، فتبيع عدداً أكبر من الحقائب لكنها تواجه تراجعاً في الطلب.


الألماس للنخبة فقط


في المقابل، تواجه "دي بيرز"، إحدى أكبر شركات تجارة الألماس في العالم، تحدياً مختلفاً. فسوق الألماس واسع إلى حد لا يسمح بتطبيق إستراتيجية "هيرميس". فالشركة بحاجة لأن يظل الألماس نادراً ومميزاً، وفي الوقت نفسه حاضراً على كل خاتم خطوبة في الولايات المتحدة.

قد لا يكون ذلك ممكناً بعد الآن. فالسيناريو الأرجح أن يظلّ الألماس الطبيعي مرغوباً، محتفظاً بقيمته ورمزيته الخاصة، لكنه، مثل "بيركين"، سيقتصر غالباً على شريحة نخبوية من السوق، فيما قد يختفي تماماً سوق الألماس الطبيعي الأصغر حجماً والأقل جودة.

إذا ما حصل ذلك، سأستعيد ثقتي بقيمة الألماس وبقوى السوق معاً. وهذا جيد، فمزيد من الجمال والتجارة سيعودان بالنفع على الجميع. أكاد أدمع عند مجرد التفكير في ذلك.


كاتبة في قسم الرأي ببلومبرغ. وهي زميلة أولى في معهد مانهاتن

خاص بـ"بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي