المفاهيم الخاطئة في قراءة السياسة الأمريكية الجمركية
أصبح الحديث عن سياسة التعرفة الجمركية الأمريكية الجديدة والافتراضات السلبية على الاقتصاد العالمي وكأن ذلك واقع حقيقي، إلا أن تحليل التأثير الفعلي والأسباب التي أدت إلى تغيير جذري في السياسة الأمريكية يكاد يكون غائباً في التقارير الصحفية بما في ذلك النشرات الاقتصادية.
يرجع ذلك في معظم الأحيان لتوجهات أيدولوجية واسعة مناهضة للسياسات المحافظة للرئيس الأمريكي دونالد ترمب بشكل عام. ولأن حجم مايقوم به الرئيس الأمريكي في هذا المجال يعد تاريخياً بكافة المقاييس، أصبح الانقسام وحدة الانتقاد واضحاً بشكل كبير، يضاف إلى ذلك الطريقة الجريئة التي يعبر فيها الرئيس ترمب عن سياسته ويعدها كثير من خصومه استفزازية لا تراعي مصالح الآخرين وقد تسبب خطراً على مصالحهم. ربما يكون ذلك التخوف مفهوماً في الجانب المنطقي والدبلوماسي، إلا أن الحقيقة أنه من النادر أن نرى تحولات بهذا الحجم على مر التاريخ لم يصاحبها معارضة قوية.
واذا أخذنا الجوانب السياسية والإيدلوجية وتضارب المصالح جانباً في هذا الموضوع، فإنه لا بد من الرجوع إلى أسباب هذا التوجه الكبير في إعادة رسم التعرفة الجمركية الأمريكية والصادم للوهلة الأولى، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبروز الولايات المتحدة في الساحة الدولية قوة عسكرية واقتصادية مهيمنة وظهور الدولار الأمريكي بقوة كعملة الاحتياط الأولى لدول العالم في جميع تعاملاتها التجارة الدولية، أصبحت الولايات المتحدة المحرك الأساسي لكافة الجهود العالمية للنهوض من الدمار الهائل الذي تعرضت له دول أوروبا واليابان خاصة جراء الحرب العالمية.
ومن تلك الجهود تحمل الولايات المتحدة لفروقات جمركية في التجارة الدولية لمصلحة دول العالم الأخرى لإعطاء ميزة نسبية لتلك الدول لتحفيز اقتصادياتها للنهوض بالاقتصاد العالمي وجهود إعادة البناء. استمرّت تلك السياسات التجارية الأمريكية مع دول العالم لعقود متتالية وبالرغم من تحقيق التعافي الكامل للاقتصاد العالمي.
كان معدل النسب الجمركية قبل إعلان الرئيس ترمب عن التعديلات الجديدة 2-3% رسوم جمركية أمريكية على البضائع المستوردة لأمريكا مقابل 12-15 % تفرضها الدول الأخرى على الواردات الأمريكية.
نتج أيضاً عن تلك السياسات التجارية غير المتوازنة أن قامت كثير من الشركات الأمريكية بنقل مصانعها إلى دول أخرى حول العالم لخفض التكلفة والتصدير من تلك الدول إلى أمريكا للاستفادة من فارق التعرفة الجمركية، ما أدى على مر السنين إلى فقدان الولايات المتحدة لميز نسبية في قطاعات صناعية متعددة وخسارة وظائف نوعية للمواطنين الأمريكيين. لم تبرز أهمية هذا الموضوع على مستوى الأمن الوطني إلا في السنين الأخيرة مع تصاعد المنافسة العالمية وزيادة مستوى الديون الأمريكية.
وكما هو واضح فإن السياسة الأمريكية الجمركية الجديدة ليست موجهة فقط للدول الأخرى المنافسة ولكنها تستهدف أيضاً الشركات الأمريكية الكبرى التي استفادت من الوضع السابق لتعظيم أرباحها على حساب قطاع كبير من القوة العاملة الأمريكية، وهذا ما يشرح مناشدات كثير من الاقتصاديين في أمريكا بأهمية الحفاظ على مستوى الطبقة الوسطى العاملة التي بدأت تنزلق إلى مستويات معيشية أقل مما كانت تتمتع به في العقود الماضية.
ومع التوجه الجديد في السياسة الأمريكية الجمركية الجديدة، يبدو التصحيح في المعادلة الجمركية وكأنه يقترب الآن من مستوى التوازن في حدود 15% تعرفة جمركية بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين حول العالم. وقد نتج عن هذا التحول الكبير أن كثير من الشركات العالمية بدأت في الإعلان وبشكل سريع عن إستراتيجيات جديدة للتوسع في مقراتها الصناعية في أمريكا، مثال على ذلك شركة أبل التي أعلنت عن استثمارات جديدة داخل أمريكا بقيمة 600 مليار دولار، وكذلك شركات يابانية وكورية وأوروبية أخرى بدأت في رسم سياسات جديدة.
وفي تقديرات لوزارة الخزانة الأمريكية فإن الإيرادات الحكومية من إعادة تصحيح السياسة الجمركية قد تتعدى 300 مليار دولا سنوياً ما سيسهم في تخفيض العجز المالي السنوي بنسب كبيرة خلال السنوات المقبلة. ولقد بدأت الأسواق المالية أخذت هذه التطورات بشكل أكثر إيجابية ما يتردد في الصحافة العالمية ويفسر الارتفاعات الكبيرة الأخيرة في الأسواق الأمريكية.
يرى بعض المحللين في السياسة الأمريكية ومراكز الأبحاث أن هذه الجرأة السياسية التي يقوم بها الرئيس ترمب في مواجهة تحديات اقتصادية كبرى، والتحول الكبير في عدد من السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية بالغة التعقيد في قضايا يصعب على رئيس اعتيادي مواجهتها بدرجة الحزم وقوة الدفع إلى الأمام المنتهجة حالياً، قد تجعل من الرئيس ترمب أحد الرؤساء الأمريكيين التاريخيين.
عالم زائر في مركز التنمية المستدامة والتنافسية العالمية ـ جامعة ستانفورد