بريطانيا على حافة أزمة ديون صعبة تهدد استقرارها المالي لعقود
في وقت تتصاعد فيه التحديات الاقتصادية العالمية، وتحت وطأة تباطؤ النمو، تواجه بريطانيا أزمة ديون متصاعدة تهدد استقرارها المالي لعقود مقبلة، وتضعها أمام خيارات صعبة؛ فإما أن تتخذ قرارات قد تبدو مؤلمة، أو أن تواجه مستقبلا ماليا غامضا.
فمنذ مطلع القرن الحالي وحتى مارس الماضي، ارتفع الدين الصافي للقطاع العام البريطاني إلى ما يقارب 100% من الناتج المحلي الإجمالي.
هذه النسبة تضع المملكة المتحدة في موقع حساس ماليا، لا سيما مع اعتمادها المتزايد على المستثمرين الأجانب لتمويل العجز، وافتقارها لمدخرات محليّة كافية على غرار أقران لها في مجموعة السبع، مثل اليابان وإيطاليا.
أكثر ما يثير القلق بشأن الديون البريطانية هو أن ارتفاع حجم الدين العام لم يأت نتيجة حرب، بل بسبب 3 صدمات اقتصادية كبرى، وفقا لما قاله لـ "الاقتصادية" ديفيد هيلي، الباحث الاقتصادي في بنك إنجلترا.
هذه الصدمات الثلاث هي "الأزمة المالية العالمية عام 2008، وجائحة كوفيد-19، وأزمة الطاقة التي تلت الغزو الروسي لأوكرانيا، وهي التي أدت إلى تفاقم المديونية البريطانية".
خدمة الدين ما يؤرق بريطانيا
رفضت الحكومات المتعاقبة الاعتراف بالأزمة، بحسب هيلي؛ ولكنها الآن، مع بلوغ الدين العام في نهاية مارس الماضي نحو 2.64 ترليون جنيه إسترليني، لم تعد قادرة على إخفاء الحقيقة أو تجنّب الاعتراف علنا بعواقبها".
ولقضية الديون البريطانية جوانب متعددة ومعقدة؛ والجانب الأكبر المؤرّق للحكومة، من وجهة نظر الباحث الاقتصادي، يكمن في أنّ معدّل الفائدة على الديون بات أعلى من معدل النمو الاقتصادي الحقيقي.
فقد أصبحت خدمة الدين، البالغة 100 مليار جنيه إسترليني سنويا، تستهلك جزءا متزايدا من الإيرادات العامة. وفي ظل توقعات نمو ضعيفة لا تتجاوز 1% هذا العام، تصبح بريطانيا عرضة للوقوع في "فخ الديون".
ولن تكفي الإيرادات الحكومية لتغطية النفقات العامة إضافة إلى سداد فوائد الديون، في هذا الوضع.
حيازات الأجانب تعرض الاقتصاد للتقلبات
الجانب الآخر للمشكلة يكمن في أن هيكل الديون البريطانية تغير بطريقة مقلقة، وفقا لما قالته لـ "الاقتصادية" الدكتورة هيلين تويج، أستاذة الاقتصاد البريطاني، مشيرة إلى أن نسبة كبيرة من الديون يحوزها مستثمرون أجانب "ما يجعل الاقتصاد أكثر عرضة لتقلبات الأسواق الدولية".
على الرغم من أن الميزانية الأخيرة تضمنت إجراءات وُصفت بالصعبة، ومن بينها رفع الضرائب إلى مستويات تاريخية يُتوقع أن تبلغ ذروتها عام 2027، فإن كثير من الخبراء يشككون في مدى فاعلية الإجراءات وقدرتها على وضع المالية العامة البريطانية على المسار الصحيح.
فالديون البريطانية ستعاود الارتفاع بحلول 2029–2030، على الرغم من كل التعديلات التي أدخلت على قواعد السياسة المالية.
ويُحمّل الخبراء الحكومات المتعاقبة مسؤولية تفاقم الديون بسبب تفادي اتخاذ إجراءات إصلاحية حقيقية خشية تراجع شعبيتها؛ لكن في الوقت ذاته، توجد عوامل كامنة في الوضع الاقتصادي البريطاني تعيق إمكانية حلّ المشكلة.
تأجيل الإصلاح لم يعدد ممكنا
فالإنفاق العسكري المتزايد، والرفاه الاجتماعي، وقطاع الصحّة والتعليم، من الأمور التي تضع ضغوطا متزايدة على الميزانية العامة، في وقت تتزايد فيه شيخوخة المجتمع وينخفض عدد القادرين على العمل مقارنة مع عدد المتقاعدين.
يعمّق هذا الوضع التحدي المالي، ويُضعف القدرة على تقليص الإنفاق دون الإضرار بالخدمات الأساسية.
يرى البروفسير ريتشارد تيك، أستاذ المالية العامة والاستشاري السابق في الحكومة البريطانية، أن المملكة المتحدة أصبحت أمام خيارين لا ثالث لهما إذا أرادت الحفاظ على جودة الخدمات العامة ودعم الرعاية الاجتماعية، فإما رفع الضرائب، أو تقليص دور الدولة.
لم تعد الديون البريطانية مجرّد أزمة حسابات أو نسب مئوية "إنها أزمة خيارات مؤجلة وفشل في التخطيط طويل الأجل. التأجيل والمراوغة لم يعودا من الخيارات الممكنة" بحسب ما قاله تيك لـ "الاقتصادية".
"وإذا لم تتخذ الحكومة الحالية قرارات شجاعة وشفافة، فإن أعباء هذه الديون سيتحملها الجيل القادم، في شكل ضرائب أعلى، وخدمات عامة أضعف، ونمو اقتصادي محدود".