"المركنتيلية" الجديدة من الذهب إلى التكنولوجيا

المركنتيلية، الفلسفة الاقتصادية التي هيمنت على أوروبا في القرنين الـ6 والـ17، ترى أن الثروة الوطنية تتحقق من خلال فائض الميزان التجاري ودعم الصادرات بشكل مطلق وفرض قيود صارمة على الواردات باستخدام الرسوم الجمركية والتدخلات، وتقاس قوة الدولة آنذاك برصيدها من الذهب، وفق نهج يعكس عقلية "لعبة المحصلة الصفرية"، حيث ينظر إلى التجارة على أنها تنافس يربح فيه طرف على حساب الآخرين.

نشهد اليوم عودة معاصرة للفلسفة المركنتيلية من خلال سياسات الحمائية، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية تحت شعار "أمريكا أولاً"، حيث يرى ترمب أن نظام التجارة الحرة المستند إلى مبادئ الليبرالية الكلاسيكية أضر بالصناعة الأمريكية واستفادت منه دولة مثل الصين بالوصول إلى السوق الأمريكية بقوة، بينما حمت أسواقها، ما أثار شعوراً بالظلم.

تسعى الحمائية الأمريكية المعلنة إلى استعادة ثراء أمريكا من خلال حماية الصناعات المحلية التحويلية وتقليص العجز التجاري، لكن الرسوم الجمركية التي فرضها ترمب أحدثت زلزالاً اقتصادياً وتراجعات بسبب مخاوف المستثمرين من التضخم وزيادة تكاليف الواردات.

فرضت الولايات المتحدة الأمريكية رسوماً جمركية بنسبة 145% على الواردات الصينية، تشمل 125% كرسوم أساسية و20% إضافية مرتبطة بقضايا أخرى، ردت الصين برفع الرسوم على السلع الأمريكية إلى 125% في تصعيد حاد للحرب التجارية، كما فرض الاتحاد الأوروبي رسوماً معاكسة، ما زاد الضغط على الاقتصاد الأمريكي.

الحروب التجارية تسببت في الاضطرابات في سلاسل التوريد، ما يضع الدول النامية مثل فيتنام وإندونيسيا، تحت ضغط تكدس السلع الصينية المعاد توجيهها من السوق الأمريكية.

في 2025، يواجه الاقتصاد العالمي تحديات معقدة، مع توقعات بنمو يبلغ 2،8% أقل من متوسط ما قبل الجائحة 3.2% نتيجة التوترات التجارية وارتفاع الديون، وضعف الاستثمار.

المركنتيلية التقليدية تتجلى اليوم في نهج حديث يرتكز على الحمائية والتدخل الحكومي في التجارة لأهداف تتجاوز التنافسية، لكن كيف يتفاعل هذا النهج مع السياق الاقتصادي العام الراهن؟

رغم أن سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تُشبه المركنتيلية التقليدية، فإن السياق العالمي الحديث مختلف تماماً، الاقتصاد العالمي اليوم مترابط بشكل غير مسبوق، مع سلاسل توريد معقدة ومتشابكة، وعلى الرغم من أن فرض الرسوم الجمركية قد يدعم الصناعات المحلية بشكل مؤقت، فإنه يهدد بإثارة تضخم عالمي وتفاقم الركود الاقتصادي.

عودة المركنتيلية بصورتها التقليدية تبدو غير مرجحة، لكن "مركنتيلية جديدة" تجمع بين الحمائية والتدخل تتشكل كواقع ملموس، ومع ذلك، يواجه المركنتيليون الجدد تحديات معقدة، مثل تعقيدات العولمة، وتداعيات الحروب التجارية على الاستثمارات الدولية وصعود التضخم. في المقابل، قد تدفع هذه السياسات دولاً أخرى نحو تعزيز التكامل الإقليمي مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والاتحاد الأوروبي وكذلك الصين مع دول جنوب العالم.

ومن ناحية أخرى: إذا كانت المركنتيلية التقليدية تقيس الثروة باحتياطيات الذهب والفضة، فإن الثرة اليوم تُقاس بقوة الصناعات المحلية ومستوى التقدم التكنولوجي، من أمثلة الدول التي تتبنى المركنتيلية الجديدة الهند، من حيث الاعتماد على التصنيع المحلي، والصين في سياسة الاكتفاء التكنولوجي.

في الختام، عادت الفلسفة المركنتيلية (التجارية) للظهور مجدداً، مستمدة قوتها من التوترات الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة، لتثقل كاهل العالم بتكثيف التنافس الجيوسياسي على حساب الاقتصادي، هذه المركنتيلية الجديدة قد تشعل شرارة إعادة صياغة النظام الاقتصادي العالمي، فإما أن تُلهم فلسفة اقتصادية هجينة تمزج بين الحمائية والتكامل، أو تُفضي إلى دوامة من الحروب التجارية والتضخم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي